يُعدُّ الجَسَد مَركَز الخَطِيئةِ وَالتَّحولاتِ النَّفسيَّة والفيزيائيَّة وَالاجتمَاعيَّة، فَلكُلِّ عضو فيه وَظيفةٌ خَاصّة، فَالعينانِ كَما يَرى أَحدُ الحُكمَاء هُما بَاب الاعتبَار، وكَذلكَ مُفردات الجَسَد الأُخرى التي لا تَخلو مِن حساسية خَاصّة مَحكومة بانفعَالاتِ المؤثِّر الخَارجيّ.
وَقَد كَشَفت النصوصُ السّماوية، كالتَّوراة والإنجيل والقُرآن الكَريم، وكَذلكَ كِتابات المتصوّفة ومَواقفهم كَمُحيي الدِّين ابن عَربي وَالنِّفري، وَغيرهم، عَن صِلة وَاضِحة بينَ الجَسَد وَمُعَاناة الإِنسانِ ووجوده في هَدِير الحَياة اليَومية.
فَفِي العَهدِ القَديم نَجدُ ( أَنَّ كُلَّ رجُل جَسَده مُصاب بِالسَّيلان فَهو نَجس)، وَجَاء في القُرآن الكَريمِ (وَاتَّخَذ قَوم مَوسَى مِن بَعدِه مِن حِليهم جَسَداً لَهُ خُوَار) . وَابن عَرَبيّ جَعَل مِن الجَسَد شَكلا نَاقِصاً دُونَ الرُّوح في النَّشأتينِ: نَشأة الدُّنيَا وَنَشأة الآخِرَة، وَهو يَقُول:
وَمَا أَرَادَ بِهذا الخَلق مِن أَحد
مِن نَشأتيَّ سَوى رُوحي مِن الجَسَد
بَينمَا انطلق النِّفري وَهُو يُؤسِّس رُؤيتَه للجَسَد مِن خِلال العَين التي تَحكمهَا الموجُودَات الدُّنيويّة لِكَونهَا جَسَداً تَنقصُه الصَّيرورة وَالتَّبدّي الإيروتيكي وَهُو يَقُول في إِحدَى مَوَاقفِه: (عَين البَشَريّة جَسَد مُحتاج، حُكم البَشَرية طَبع غَافِل).
كَمَا بَيَّن أَحدُ البَاحثينَ أَنَّ الأَجسَاد تُعبِّرُ عَن نَفسهَا حَتى في تَمايلِهَا، أَو في مَشيها، أَو في رَقصَاتها واهتزَازَاتِهَا، وَهَذا يَعني أَنَّ الجَسَد هُو فَضَاء الحِرَاك الذَّاتيّ لِلإِنسَان، وَهُو يَمنَح هَذا الكَائن تَكوينَه الحسّيّ وَالفيزيائيّ.
وَفي نُصوص الشَّاعرةِ ابتهال بليبل المفتوحة (جَسَدُها في الحمام) تَنويعَات يَوميَّة، وَاشتغَالات يَشتبِكُ فيهَا المادِّي بِالرُّوحيّ، والمرئي بغيرِ المرئي، وَالصُّوفيّ بالعرفَانيّ، حَيث تتَجَلّى الكَثير مِن الطُّقوس الاحتفَالية بِالجَسَد، وَالتَّمثلات الغَرائبيّة القَائمة عَلى المطَابقة وَالاختِلاف؛ إِذ تَتَبَدى شِعريّة الجَسَد، وَتَحولاته الحسّيّة في مَسارب النُّصوص وَعنوانَاتها.
فَفِي نَصِّ (المقصّ كائن مُفترس/ ص5) تَتحوّلُ الكَثِير مِن المفرَدات إِلى عَنَاصر ضَاغِطة تَتَسيّد فِيهَا الإِشَارة وَانتزاع الشَّيئيّة النّمطيّة مِن كَينونتِهَا الجَاهِزة حَيث نَتَلمّس في هذهِ المفردَات بُعداً مِرآتيا مُتخَماً بالمثيراتِ الشِّعريّة للجَسَد بِوَصفه مَنظومَة مِن التَّوقيعَات السِّيميائيّة التي تَكشفُ عن المهيمِنَات والشّفرات الدّلاليّة في النّصّ الشّعريّ، فَالعَين المجردّة نَظراتها تَبدو عَابرة، والقماش الشّفّاف يَكشف كَدمَات جَسَدها الطّافي مثل سَمكة مَيتة. والرّقص على أَصَابع القَدَمين يُشبه الهَذيَان، اعرف مَا يَكفي عَن شَعر رَأسي حِين أُريد أَن أَتَخَلَّص مِن طُوله، وَثَمَّة وَجه لا أَعرفه في المكَان، وَخصلاتي الذَّهبيّة خَائفة، وَصوت المقصّ على شَعري الآن صَوت الرّحيل.
وَيَتضح أَنَّ هذه الصِّياغات التَّعبيريّة تَختزل الجَسَد في عَدد من التَّرابطَات النَّسقية بينَ الجَسَد وَالتَّفريعَات المتَخَيلة في أَداء سَرديّ تقرره حَيثيَّات التَّشكل الوجدانيّ، وهو بمثابة سُؤال اصطفائيّ تَحتَشد في فضَاءاته الإيحَاءات وَالتَّأويلات، حَيث نجد الشّعريّة في هَذا النَّصّ تَتولّد مِن ابتكَار المسَاحات الدّلاليّة، وحَيويتها في تَشكيلِ الوحدَات الدّراميّة، فَالمقصّ وصَوته، وَهُو يَلتهم شَعر الرَّأس لم يَكُن إِلا صَوتاً نَافِراً يُومئُ إِلى انطفَاء المرء وزوالِه. فالشَّاعرة تُشير إِلى هذا التساقط المحموم ، وكَأَنَّها في مُواجَهة بَينَ البَقَاء وَالفَنَاء، إِذ يَتَبدد العُمر بِخَساراتِه كَمَا تَتَبدَّد خِصلات الشَّعر الموصُوفة بِالذَّهبيّة في دَوامة هذا العَالم المفجوع بِالفَقدِ وَالغُربَة وَاللامُبالاة.
كَمَا تَلجَأ ابتهال بليبل إِلى شِعريَّة الإِدَانةِ في نَصِّهَا (جَوَارب وَأَحذِية بِكُعُوب عَالية / ص89)، حيثُ تَبرزُ فِكرَةُ الإِدَانَة مِن خِلالِ رَمزيَّة الأَحذيَة وَالكُرسي وَالحِيطَان وَمُلصَقَات المرشَّحِين، وَيَأتي الإِلحَاح عَلى هَذِه المفرَدَات بِوَصفِهَا إِشَارَات ذَات بُعدٍ دلاليّ وَسيميَائيّ تَرصد فيها الوَاقِع السّياسيّ بنَظرَة تأمُّليّة، فَفَوضَى مُلصقَات المرشَّحين تنبض بهذا التَّماهِي مَعَ هَوس اللّهاثِ على كُرسي الوَجاهَة؛ ذَلكَ الكُرسي الذي تَتَرجَّاه في مَضَامير الأَحلام وَالطّموحَات الدّنيويَّة، وَنَحن نَرمق مَا فيه مِن ابتذالات وَايهامَات عَلى حِيطان المنَافَسة في الانتخَابَات البَرلمانيّة، تقول: (أَرَى فَردة الحِذاءِ تَحتَ الكُرسي، حَيثُ الفَوضَى عَلى الأَرضية، لَيل مدينة مَع أَلف دَمعَة نَدَم، مَع مَلامح صَوت احتفظ بهَا لاصقاً مثل مُلصقَات المرشَّحين في الانتِخَاباتِ البرلمانيّة).
وَهُنا، تَسترفد الشّاعرة مِن ذَاكرتها التّصريحيّة مَا يَكشف عَن انشغَالهَا بِالهمِّ اليَوميّ، وتمثلها تلكَ الموَاقف وَالمشَاهد التي يُدوّنها العَقلُ البَاطن: انتخَابَات، وَدَوام يَوميّ، وَإِطلاقَات نَاريّة، وَطلاء الأَظَافر، وَالثّيَاب السُّود، وَالخلخَال البوهيميّ، وَالجَسَد الخَالي مِن الأَعصَاب، وَغَيرهَا. وَكَأَنَّها تَستَنطقُ هَذهِ الأَشيَاء في بَوحٍ دَاخليّ لا يَخلو مِن مُكابَدات الجَسَد وَارتهَانه السّيزيفي في دَوّامة المرَاوَغَة وَالانفِعَال.
إِنَّ شِعريَّة الجَسَد في نُصُوص (جَسَدها في الحمام) تَقومُ عَلى هتك الحُجب وَالنَّواهِي وَاستغوَار الجَسَد الإِنسَانيّ، وَافتضَاض كَثَافته في تَهَجّي المرويَّات وَالمقدَّس وَالموروث الشَّعبي، إِذ تَتَجلى في هَذِه النُّصوص شِعريّة السُّخرية وَشِعريّة المكان وَشعريّة الزَّمان، وَشعريّة المغَامرة وَشعريّة الاحتِضَار وشِعريّة الأَكيَاس الفَارِغة، كَما استطَاعَت الشَّاعرة ابتهال بليبل أَنّ تُعيد إِلى الذَّاكرَة الجمَاعيّة مَآلات الجَسَد وَكَينونتهَا بَينَ الموتِ وَالحَيَاة.