تهميش الإبداع

العراق 2019/12/25
...

عدنان أبوزيد
الفضائيات ووسائل الاعلام، لا تدّخر وسعا في اجترار المعالجات السياسية، عبر “نجومها” المعروفين، بينما يركن الفاعلون الثقافيون والكتاّب وأصحاب الفكر والمبدعون والمهندسون والصناعيون والأطباء، على الهامش، وبات الاهتمام بهم معدوما تماما، في ظاهرة لم يألفها الاعلام العالمي، الذي وإنْ اهتم بالسياسة وادواتها في نشرات الاخبار، لكنه يعوّض عنها بتناول الجوانب الأخرى في المجتمع لاسيما الثقافية والفكرية منها، في الحوارات، والبرامج، والأبحاث المتنوعة.
يرتبط هذا التهميش، بخلل آخر تمارسه الوزارات والمنظمات والجمعيات، حين تعجز عن مبادرات الحفاوة والتكريم بأدباء وفنانين وشخصيات ثقافية أو فكرية أو إعلامية، وفي الحالة التي تحصل فيها، فإنها لا تتجاوز الاعتراف الشكلي، بدور المثقف او الفنان او العالم او الأكاديمي في احتفاليات طارئة ارتجالية وصدفية، تُمنح فيها الاوسمة والقلائد، ونياشين التكريم، بينما الحاجة تتطلب غير ذلك تماما، في التثمين الحقيقي الذي يسعف المبدع في حياته، ويسدّ حاجته، ويجعله منصرفا لإبداعه، وتشجيعه على استمرارية العطاء والإنتاج، ولن يكون ذلك الا بالتأسيس الى قوانين، تجعله في أمن معيشي، معزّز الكرامة، وتتيح له المدخول المادي المناسب الذي يمول مصاريف الأبحاث والكتابة والاستقصاء، ويجعله عاكفا على المزيد من الإنتاج، كما ونوعا، فضلا عن ادخار الوقت في الاكتشاف.
لا يتوافر العراق على خطة محسوسة وستراتيجية في تكريم الفاعلين في الثقافة والفنون والعلوم والإعلام والفكر، وإذا مثلت فلن تتجاوز كونها، مهرجانات مدح وثناء، ومنطقا مجترا، وشهادات افتخار اعتبارية.
مقارنة بتجارب دول اوربا الغربية، فانه وإن كان حتى المواطن العادي يحوز على الراتب والسكن، فان المبدع والمبتكر، ينال من الاهتمام، الكثير والاستثنائي، من دون ان يشعر بالعيش على هامش المجتمع حتى في تقدمه في السن وتوقفه عن الإنتاج، بينما الوقائع تشير الى ان مآلات أحوال المبدعين في شتى المجالات، حين يكبرون في السن، مأساوية في العراق، تكشف عن عقوق شعب لمبدعيه ومثقفيه وعلمائه.
ونذهب في تفسير ذلك الى ابعد من التكريم، وهو التقييم لهؤلاء في المجتمع الذي ينكب على “تقديس” أسماء معينة، شكليا فحسب، ويسعى الى مدحهم في المنابر، ويتداول أفكارهم، من دون التأسيس لمبادرات مجتمعية، تسهم في ديمومة ابداعهم.
وعودة الى الاعلام الذي جعل الساسة والأحزاب، نجوم تلفزيون، وجعل الشخصية العراقية، تركز عليهم في الاكتراث والمتابعة، فان واقع الحال يشير الى ان ذلك اسهم في تسقيطهم بسبب الظهور المجتر، لينقلب السحر على الساحر، ما يستدعي الموازنة في الاهتمام، والعمل على استدراج الرأي العام للترويج للإبداع الإيجابي وتكسير التماثيل السياسية التي ابتلي بها الإعلام والعقل الجمعي عقودا طويلة، على حساب بناة المجتمع الحقيقيين وهم المبدعون وأصحاب الخبرة والاختصاص. 
وقد كان من نتائج التفريط، ان المبتكر وجد نفسه في منصات ساحات التظاهر، لا منابر الأحزاب والمؤسسات الحكومية التي كان يتوجب عليها جذبه اليها والاستفادة من مهاراته وابداعه. الأمور تتوجّه الى خلاف مقاصد ترويج الفضائيات والصحف ومواقع شبكات التواصل الاجتماعي، فما عاد المواطن يعبأ للبهرجة السياسية والإعلامية والثقافية، والدليل ان اغلب الذين يبرزون في شاشات التلفاز من النخب السياسية، لا يحظون بالتأييد بين التظاهرات التي أصبحت مكيالا 
واضحا للرأي الشعبي. 
على الدولة بجميع مؤسساتها، فسح المجال لدور أكبر للنخب الإبداعية، في تقديم حلول للمعضلات، واستقطاب العينات الثقافية والعلمية والادبية والاجتماعية والبحثية الى مشاريع ستراتيجية، تخلق فرص العمل، وتضع الحلول للمشكلات، وتبحث في الظواهر، والتأسيس للمعالجات، في عملية انبعاث واسعة للاقتصاد والاجتماع، والصناعة والزراعة والخدمات، فضلا عن ان واجب الأحزاب والتحالفات السياسية يجب ان يركّز على “تطعيم” صفوفها بهم، وتحديث ادواتها 
بمهاراتهم وخبراتهم.