بلاغة الصمت!

الصفحة الاخيرة 2019/12/28
...

 جواد علي كسّار
للكلام جغرافيته الخاصة، وللصمت خرائطه، والزمام بيد الإنسان أن يختار بين جغرافيا الكلام وخرائط الصمت. وعلى عكس ما يتصوّر الكثير منّا، فإن في الصمت طاقة قد لا يؤديها الكلام، وفي الصمت قوّة تواصلية لا تقلّ عن تواصلية اللغة، ولذلك قالوا بأن الصمت من أصعب اللغات!
من الصمت ما يكون قاتلاً للسفاهة، وحصناً يلوذ به الإنسان من الجهل، وهو كثيراً ما يُنجي صاحبه من وباء الثرثرة والسفه، حتى جاء بالأثر الشريف: «ترك جواب السفيه أبلغُ جواباً»، كذلك: «إذا حلمت عن الجاهل فقد أوسعته جواباً».
وما أروع هذه الدرّة النفسية من شعر الحكمة:
وإذا بليت بجاهل متحكم
يجد المحال من الأمور صوابا
أوليته منّي السكوت وربّما
كان السكوت عن الجواب جوابا
والصمت بعد ذلك صناعة صعبة جداً، من المؤكد أنها أشق من الكلام، لذلك نقرأ في تراث الحكماء عن هؤلاء الناس: «كانوا يتعلمون السكوت كما يتعلمون الكلام». ومن طريف ما قرأت عن الصمت والكلام، أن يونس النبي عندما خرج من بطن الحوت طال صمته، فقيل له: ألا تتكلم؟ فقال: إن الكلام صيّرني في بطن الحوت.
الحقّ إن الصمت كموقف، هو تعبير عن قوّة سلطان الإنسان على نفسه، وكما تقول العرب إن الكناية أبلغ من التصريح، كذلك قد يأتي الصمت أقوى في التعبير عن الاعتراض من الكلام نفسه، لأن العيّ ليس بالضرورة عيّ اللسان، وما أروع سيّد البلاغة الإمام أمير المؤمنين: «ونعم العون الصمت في مواطن كثيرة، وإن كنت فصيحاً».
وما أروع الصورة التي يرسمها شاعرنا لغصة الصمت، حين يتحوّل إلى موقفٍ للاعتراض:
أقلل من القول تسلم من غوائله
وأرضَ السكوت شجاً في الحلق معترضاً
هذا اللون من الصمت الاحتجاجي الرافض، هو ما اختارته مرجعية النجف الأشرف في «صمت الجمعة» الماضي، خاصة بعد حزمة من المشاركات المنهجية الفاعلة، خلال الأسابيع الماضية. وقد جاء الصمت الرافض، بعد مجموعة من البيانات كانت تبادر القوى السياسية لإصدارها تأييداً للمرجعية، وهي لا تكف عن وصف توجيهات المرجعية بأنها خرائط طريق للخروج من الأزمة التي يختنق بها البلد الآن، فإذا كانت توجيهات النجف الأشرف خرائط للعمل فعلاً بحسب القوى السياسية، فلماذا لم يتمّ الالتزام بها، بدلاً من هذا التخبّط المريع في الأداء، وفي كيفية التعامل مع الأزمة، والإصرار على تصفير المعادلة، في كلّ مرّة تقترب فيها مشكلتنا من الحلّ؟
ليس من شأني أن أكون ناطقاً باسم أحد، وإنما أعبّر عن فهم خاص لصمت الجمعة الماضي، يفسّر دافعه على أساس الاحتجاج، ورفض طريقة تعامل القوى المعنية مع الأزمة؛ تسند هذا الفهم معلومة خاصّة، وتؤيده قرائن كثيرة، منها ما جاء في الخطبة نفسها، وهي تتناول عناصر أساسية ترتبط بعقلانية القرار، وحكمة الأداء.
فالعقلانية ترتبط بمشورة أهل العقل والاختصاص، والأداء يرتبط بالحكمة، وما من بلد من بلدان العالم من حولنا استطاع النهوض من دون شروط العقلانية والحكمة والاختصاص، وقد كان التجديد الفكري والفكر الجديد، هو الخطوة الأولى في نهضات من نهض من بلدان العالم جميعاً، وبلدنا يحتاج إلى تفكير جديد، تقع أغلب عناصره خارج الصندوق السائد، الذي يُمثّله العقل السياسي الحالي، خاصة بعد أن تأثّر هذا العقل، بالمعالجة الأمنية والأسلوب العسكري في هذه التجربة أو تلك.
كأن المرجعية تريد أن تقول بصمتها الاحتجاجي البليغ، ان الشرط الأول للتصحيح يكمن بفكر جديد، يوظّف ثمار العقول بالمشورة والحكمة والاختصاص، لأن بناء الدول وإدارتها هي صناعة العقلاء.