السعودية تجنح إلى ستراتيجية الحوار

العراق 2019/12/28
...

ترجمة: انيس الصفار
 
خلالَ الأشهر التي أعقبت الهجوم بالصواريخ والطائرات المسيرة الذي خلّف وراءه منشأتين سعوديتين يتصاعد منهما الدخان، اتخذ ولي العهد السعودي منعطفاً غير معهود في دبلوماسيته وأخذ يجنح نحو التهدئة مع اعدائه في المنطقة. فقد صعد الأمير محمد بن سلمان من حواره المباشر مع الثوار اليمنيين، الذين قضى أربع سنوات في محاربتهم، الأمر الذي أدى الى خفض مستوى الهجمات من الجانبين. كذلك بدرت منه اشارات تنم عن الاستعداد لتخفيف الحصار الخانق الذي يفرضه هو وحلفاؤه على جارتهم الصغيرة الغنية قطر، إن لم نقل انهاءه بالمرة.

أكثر من هذا أنه دخل في محادثات غير مباشرة مع إيران، في محاولة لإبعاد شبح الحرب المستعرة في المنطقة.
يقول المحللون إن تحويل الزخم من الصدام الى الحوار يحمل دلائل ادراك واقعي بأن حجر الزاوية الذي قامت عليه السياسة الأميركية في الشرق الأوسط طيلة عقود عديدة، أي المفهوم القديم الراسخ بأن الولايات المتحدة لن تتوانى عن حماية صناعة النفط السعودية ودرء الخطر عنها إذا ما تعرضت لهجوم خارجي، لم يعد بالامكان أخذه مأخذ التسليم.
فرغم اتفاق المسؤولين الأميركيين والسعوديين على أن إيران هي التي تقف وراء هجمات 14 أيلول على منشأتي النفط في البقيق وخريس، تلك التي أسفرت عن خفض إنتاج النفط السعودي الى النصف لفترة مؤقتة، جاء رد الرئيس ترامب باطلاق بعض الخطابات الساخنة لا أكثر.
هذا الرد الفاتر وضع السعوديين أمام حقيقة لا مفر منها وهي أنهم، رغم عشرات المليارات من الدولارات التي انفقوها على السلاح الأميركي (والتي فاقت 170 ملياراً منذ 1973)، لم يعد بوسعهم الركون الى أن الولايات المتحدة سوف تهب لمساعدتهم لا محالة، أو على الأقل أنها لن تمد يدها بالقوة التي كانوا يرجونها منها. وإذ أطبق عليهم القلق والخوف من ان يضطروا للدفاع عن أنفسهم بأنفسهم وسط جوار متأزم يصعب التنبؤ به أخذ السعوديون يمدون ايديهم بصمت الى اعدائهم طلباً للتهدئة وإطفاء جذوة الصراعات.
يقول "ديفد روبرتس" الباحث في شؤون المنطقة من كلية كنغز بلندن: "أعتقد أننا بعد الان سوف نشير الى حادثة 14 أيلول باعتبارها لحظة تحول في تاريخ منطقة الخليج". مع تداعي فرضية أن الولايات المتحدة سوف تحيط السعوديين بالحماية يمضي الدكتور روبرتس قائلاً: "لقد باتوا يدركون الان أن عليهم أن يكونوا أكثر تفهماً وأوسع صدراً".  
هذا التحول باتجاه الحوار والدبلوماسية يمثل مفارقة متناقضة مزعجة بالنسبة للولايات المتحدة، فإدارتا ترامب والكونغرس كانتا تضغطان على السعوديين لجعلهم ينهون حرب اليمن، كما ضغطت عليهم الإدارتان من أجل التوصل الى مصالحة مع قطر، ولكن جل تلك الجهود ذهب أدراج الرياح. أما الآن فمن المرجح أن تكون الضربة، التي يفترض أن إيران هي التي سددتها، قد حققت صوب هذا الهدف شوطاً يفوق ما حققته كل الضغوط الأميركية. 
في العام 2015 تصاعدت عدوانية السياسة الخارجية السعودية بعد بروز الأمير محمد، الذي كان له من السن حينها 29 عاماً، بصفته قوتها الدافعة. القى محمد بالمملكة في خضم حرب مدمرة ضد الثوار اليمنيين المدعومين من قبل إيران، وفرض مقاطعة عقابية على قطر التي اتهمها بدعم الارهاب واقامة علاقات ودية مع طهران، كما قطع على نفسه عهداً بالتصدي لإيران في كل شبر من الشرق الأوسط.
قال النقاد إن الأمير الشاب مندفع وعنيد، وانه قوة مزعزعة لاستقرار المنطقة. فوق هذا كله سجلت حملتاه على اليمن وقطر فشلاً في تحقيق النتائج المتوخاة. ففي اليمن استقر وضع الحرب عند وضع اللاغالب ولا مغلوب وكان من نتائجها الجانبية اندلاع ازمة انسانية هائلة. أما قطر فقد وظفت ثروتها الضخمة وعلاقاتها الدولية الأخرى لإضعاف قبضة الحصار المفروض عليها. بعد ذلك جاءت الهجمات على المصافي ففضحت مدى هشاشة وضع صناعة النفط السعودية، التي تعد درة اقتصاد المملكة.تلك الاحداث قادت الى ما يطلق عليه "روب مالّي"، وهو احد كبار المسؤولين في ادارة أوباما لشؤون الشرق الأوسط، وصف "إعادة تعيير جزئية" للسياسات السعودية. فالرغبة المفاجئة لانتهاج طريق الدبلوماسية في حالتي اليمن وقطر، كما يقول، تعكس رغبة المملكة السعودية في توطيد وضعها الاقليمي في زمن من أبرز سماته هشاشة الحال وعدم اليقين.يرى المحللون أن عدم ابداء الأميركيين ردود فعل جدية ازاء الهجمات يمثل ضربة للسياسة المعروفة بـ"عقيدة كارتر"، التي يرجع عهدها الى العام 1980 حين تعهد الرئيس "جيمي كارتر" باستخدام القوة لضمان حرية تدفق النفط من الخليج بعد الثورة الاسلامية في ايران وغزو الاتحاد السوفييتي لأفغانستان. 
ثم جاء بعد كارتر رؤساء ديمقراطيون وجمهوريون فتمسكوا بتلك السياسة إذ رأوا في صادرات النفط السعودي نسغاً حيوياً لاقتصاد أميركا ومصالحها.
يشير "ستيفن كوك"، وهو باحث في مجلس العلاقات الخارجية، الى الفترة الممتدة منذ سني الثمانينيات فيقول: "طيلة فترة عملي في الشرق الأوسط كان هذا هو السبب الحقيقي لتواجدنا هناك.. أن نطيل ما استطعنا فترة تدفق النفط بحرية".
بعد الهجمات ارسل ترامب مزيداً من القوات الأميركية الى السعودية لتشغيل منظومة صواريخ باتريوت، وهو دعم أضيق بكثير مما كان ينتظره السعوديون من رئيس يعدونه صديقاً مقرباً وشريكاً يشاطرهم عداءهم لإيران. بعد ذلك أصدر ترامب أمراً مفاجئاً بإلغاء ضربات جوية كانت تعد لإيران.
يقول الدكتور كوك: "ما لم يفهمه السعوديون هو أن منظور دونالد ترامب الى المشهد العالمي كان أقرب الى منظور باراك أوباما مما كانوا يتصورون.. منظور يتلخص في الخروج من الشرق الأوسط."
أصيبت سمعة السعوديين في واشنطن بطعنة نجلاء جراء حرب اليمن وحصار قطر ومقتل الكاتب السعودي المنشق جمال خاشقجي على يد عملاء سعوديين في اسطنبول في السنة الماضية. بيد أن ترامب واصل دعمه للمملكة رغم مشاعر الغضب التي شاعت في أروقة الكونغرس ومرافق حكومية أخرى لأنه كان يعتبرها حليفاً عربياً مهماً وزبوناً معتمداً للاسلحة الأميركية. ولكن مع دنو موعد الانتخابات الرئاسية أدرك السعوديون أن ترامب قد يعيد النظر في هذا الموقف لأنه يحمله مسؤولية في أعين الناخبين، وأن أي رئيس جديد يأتي قد يتخذ نهجاً مختلفاً كلياً.
يقول أميل الحكيم، وهو محلل متخصص بشؤون الشرق الأوسط من المعهد الدولي للدراسات الستراتيجية: "قد يصعب حتى على ترامب أن يواصل الدفاع عن السعودية في كل منعطف على مسار حملته الانتخابية. لذلك أعتقد أن السعوديين لديهم من الفطنة ما يكفي لجعلهم يميلون الى التهدئة الى حين". 
كذلك أخذت سحب المشهد تتلبد بين السعودية وأقرب حلفائها الاقليميين، وهي الامارات العربية المتحدة. ففي شهر حزيران الماضي بدأت الإمارات بسحب قواتها من اليمن تاركة السعوديين وحدهم أمام عبء حرب بشعة لا يؤمن بإمكانية النصر فيها إلا قليلون. وفي تموز استضاف الإماراتيون جلسة محادثات نادرة مع إيران تناولت الأمن البحري، في محاولة من جانبهم لتهدئة التوترات في منطقة الخليج وحماية صورة الإمارات باعتبارها قطباً آمناً لحركة الاعمال.
وقد رفض السعوديون الاستجابة لطلبنا منهم تقديم تعليق بشأن دبلوماسيتهم الحالية.
رغم أن هذه الايماءات كلها لم تسفر عن اتفاقيات رسمية بعد فهي قد ساعدت على تخفيف شدّة الضغوط التي تعاني منها المنطقة. ففي اليمن اطلق الجانبان المتحاربان أكثر من 100 أسير كتعبير عن حسن النية، كما انخفضت وتائر الهجمات التي يشنها الحوثيون عبر الحدود. وفي الشهر الماضي ورد في تقرير لـ"مارتن غريفث" مبعوث الأمم المتحدة الى اليمن أن الهجمات الجوية التي يشنها التحالف بقيادة السعودية قد انخفضت بنسبة 80 بالمئة خلال الاسبوعين الأخيرين.
منذ ذلك الحين لم يقتل أحد من اليمنيين جراء غارات جوية، كما تقول راضية المتوكل، رئيسة جمعية المواطنة، وهي جماعة يمنية تعنى بحقوق الانسان. تقول المتوكل إن الخفض الحالي للتصعيد هو اولى النتائج التي تمخضت عن المحادثات المباشرة مع الحوثيين، وهي تعبر عن شكها في أن السعوديين كانوا سيختارون هذا المسار طوعاً لو كانت الحرب تسير على نحو ما يحبون يوم وقوع هجمات أبقيق.
تقول: "ما كانوا ليختاروا الكلام مع الحوثيين، بل لواصلوا تصعيد الحرب".
لم يتحقق في موقف المواجهة المعلق بين السعودية وحلفائها وقطر بعد تقدم يذكر يستحق الاشارة اليه، بيد أن المحادثات الخافتة بين القادة في الدولتين جعلت الصراع الدائر أخف حدّة. فالتقارير السعودية التي تبث عبر مواقع التواصل الاجتماعي، والتي دأبت على شتم أمير قطر تميم بن حمد آل ثاني، أخذت تلطف من نغمتها. ومع أن قطر لم تغلق شبكة الجزيرة الفضائية التابعة لها كما طالب السعوديون فإن الانتقادات الموجهة الى قطر عبر منافذ الإعلام التابعة للحكومة السعودية ومواقع التواصل الاجتماعي خففت نغمتها بدرجة ملحوظة خلال الاشهر الاخيرة، كما يقول المسؤولون القطريون.
كذلك أخذت السعودية تغض النظر عن مواطنيها الذين يسافرون الى قطر بدلاً من معاقبتهم كما كانت تفعل سابقاً، بل أنها ارسلت فريقها لكرة القدم كي يخوض المباريات في الدوحة. ورغم ان أمير قطر لم يلب دعوة العاهل السعودي الملك سلمان، التي وجهها اليه لحضور مؤتمر قمة دول المنطقة الذي انعقد في السعودية خلال هذا الشهر، فإن وزير الخارجية القطري استجاب لها.كذلك كسب القطريون قرباً من واشنطن. فبعد أن كان ترامب يجاهر بتأييده للحصار ويدعم علناً موقف السعودية في اتهام قطر بمساندة الارهاب عاد فانقلب على عقبيه. ففي السنة الماضية استقبل أمير قطر في واشنطن، كما أوفد خلال الشهر الحالي ابنته وكبيرة مستشاريه "إيفانكا ترامب" لحضور مؤتمر مهم في الدوحة.بيد أن مشاعر العداء تجاه قطر لم تخفّ في الإمارات، التي كانت على رأس الداعين للمقاطعة ولا تزال تعتقد أن قطر قريبة الى درجة خطرة من الإسلاميين في المنطقة. قطر هي الأخرى بقيت تبادل الإمارات مشاعرها، فمسؤولوها يتحدثون عن انفراج محتمل بين بلدهم والسعودية وليس مع الإمارات، وهذا من الناحية الفعلية شق لصف التحالف بين الدولتين.أضعف درجات التقدم كانت حيث المجازفات في أعلى درجاتها.. وذلك بين السعودية وإيران. فبعد سنوات عديدة من التصريحات الملتهبة المتبادلة والتنافس في دعم الاطراف المتضادة في صراعات المنطقة اخذ مسؤولون من باكستان والعراق يتدخلون للوساطة وفتح قنوات خلفية للتواصل هدفها تفادي حدوث صراع أخطر.ليس واضحاً بعد المدى الذي يمكن أن تبلغه مثل هذه المحادثات في تخفيف التوترات، خصوصاً أن أي انفتاح للمسؤولين السعوديين على إيران سوف يغضب ترامب الذي يسعى لعزل إيران ومعاقبتها.يقول مالّي، المسؤول السابق في إدارة أوباما: "لن تتغاضى واشنطن عن نشوء أي قناة للتواصل بين السعودية وإيران بينما الولايات المتحدة تحاول عزل إيران. عدم الوثوق المطلق بإدارة ترامب شيء، ولكن تحديها بهذا الشكل السافر شيء آخر، لذا يستبعد من الأمير محمد أن يقدم على هذا."