ياسين النصير
نتجاوز عام 2019 ونحن مثقلون بمهمات انتفاضة الشباب، وسنستقبل العام الجديد ونحن متفائلون بنجاح هذه الانتفاضة التي تقودها الهوامش العراقية شبابًا ونساء ومنظمات، لقد وعى الشعب العراقي أن بامكانه صناعة ثورة من خارج السياقات المعروفة للانقلابات، ومن يتتبع مسار هذه الحركة عبر حراكها منذ عام 2011 وحتى اليوم يجد أن الهامش فيها هو المنتفض، وأنه يعي دوره في التغيير، ويملك رؤيا وبرامج عمل. لقد وضعت هذه الانتفاضة الثورية مصطلحًا سياسيًا جديدًا، هو ثورة الهامش، تمييزًا لها عن اي ثورة تنتمي لطبقة معينة أو تنظيم عسكري، ومن ابعادها ستكون خصوصيتها حاملة لابعاد وأفكار شرائح من نضالات الشعب العراقي عبر التاريخ، لقد انتقلت هذه الانتفاضة من التفكير المجرد إلى التفكير العملي والمعبر عنه بسياقات الاجيال الجديدة من الشباب، فأسست رؤيا مختلفة عن أي ممارسة تفكيرية سابقة. وهذا ما يمدها بنسغ الديمومة لأنها في كل يوم تجدد ذاتها بفعالية ولغة جديدة لقد كان شعارها "نريد وطنًا" يعني طريقة متدرجة في توضيح مقاصد الانتفاضة الثورية، من أنها ثورة مطلبية يريد الشباب منها أن تحسسهم بوجود بيت، وطن، حماية، أمن، عمل، تعليم، وظيفة، زواج، ...الخ كل هذه المفردات الموزعة تعني "الوطن". بمعنى أن أهدافها ترسمها الممارسة اليومية في الساحات، وليست هناك خطط مسبقة لصياغة خطابها واسئلتها.
هذه الظاهرة جديدة في الحركات الثورية، أشبه ما تكون بألعاب اللغة في الفلسفة، من داخل أي مفهوم يمكن أن تستنبط مجموعة من المفاهيم الجديدة، فالتفكيك للأسس التي سارت عليها المحاصصة هي موضع السؤال الباحث عن "وطن" ليجدوا أنفسهم أمام مجموعة من الاحتمالات، كأن يكون التعويض عن الوطن هو الدماء، الاختطاف، القتل، والغاز سام، والسواتر، ومثل هذا الوطن مرفوض ليس من قبل هذه الأجيال، وإنما من قبل الصيغة للدولة الحديثة للوطن، فالبنية المؤسساتية التي قامت على المحاصصة ليست بنية حديثة، إنما هي مزيج من العشائرية والدكتاتورية، والحزبية الضيقة الأفق. ومثل هذه البنية لا تعطي وطنا حديثًا.
في خضم هذا الفعل الصاخب لم يكن بمقدور السلطات رؤية ما يجري، فالسيل الذي صنعه الشباب بما يدّخرون من حراك عفوي وبما يعرفون عن هشاشة الوضع السياسي، وبما خبروه من اكاذيب الوعود، أصبح بمقدوره ان يؤسس خطابًا عفويًا أول الأمر بدافع التكنولوجيا التي منحتهم حرية الحركة والتصور، ثم تطور هذا الحراك الشعبي ليصبح أحد مظاهر الاحتجاجات الجديدة في العالم، والتجارب الرافضة كثيرة ومتعددة الأشكال حين اتخذت طرائق تنفيذ غير مسبوقة، الأمر الذي مكّن مجموعة من الشباب الواعي أن يبتكر أساليب جديدة غير مألوفة سياسيا، لاعتمادها شعارات لخطاب الحق، وهي "نازل أخذ حقي" و " نريد وطنا" معتمدين على حراك الذات أول الأمر ليجدوا الساحة وقد امتلأت بالذات الجماعية ليؤلفوا خطابا عاما اتاحت الساحة لهم تأسيس هوية التظاهر والاحتجاج والرفض، ومن عايش أيام الانتفاضة الأولى يجد أن خطابها مطلبي مقتصر على الخدمات والعمل، ولكنه بعد ايام اكتشف المعنيون أن خطابهم اوسع من المطلبية، وأن مجموعة الشباب التي خرجت يوم 1-10 ببضعة آلاف، أصبحت يوم 25-10 بملايين الأشخاص، لقد اصبحت المجموعات شعبا، وهذا يعني أن مفاهيم جديدة لم تألفها ساحة الانتفاضات قد ظهرت علانية من رحم الساحات والقطاعات الشعبية المختلفة، وهو ما جعل كل شرائح المجتمع المدني تلتفت حولها وتتبنى خطابها، في هذه المرحلة المفصلية التي اختصرت ستة عشر عاما انقسم المجتمع إلى منتفضين وسلطويين. إنّ مفاهيم جديدة لم يألفها الشارع استعادت هذه الملايين بها صوتها الشعبي فزادت مطاليب المنتفضين من نازل اخذ حقي إلى "نريد وطنًا"، ولأنّ الشهرين ما قبل نهاية العام فاصلان زمنيان بين عام مضى بعذاباته وعام مقبل بطموحاته، سيتضح اكثر خطاب الشعب، وسيتعرى الفاسدون من ثياب أموالهم.