ملاحظات في التواصل

ثقافة 2020/01/12
...

ياسين طه حافظ
 

في كتب البلاغة العربيّة أحكام "ورائيّة". بمعنى خارج بناء الجملة وإيحاءاتها. وفي هذا اقتراب الى الدراسات الحديثة في فن التوصيل. فهو يترك للإنسان حضوراً في مهمة الايصال غير المهمة النطقية أو التحريرية. ويأتي هذا لا بتنويه فكري فلسفي ولكن بطبيعة الجملة العاكسة أو المعبرة عن طبيعة المتكلم (أو الكاتب). يكمن ذلك الهاجس وراء العبارة، غضباً أو حنقاً، فرحاً أو حباً، سخرية أو غمزاً.

البلاغيون اعتمدوا "نوع" المفردة أولاً ثم مكانها في التركيب. ولعل فيما كتبه المرحوم سيد قطب أمثلة جيدة قريبة منا، وهو يتذوق أو يكشف بلاغة المفردة القرآنيّة. ويمكن ان نجد ذلك في كتابه المفيد "النقد الأدبي" و في كتابه "في ظلال القرآن".
لكن هذا المنحى في الدراسات يتركنا خارج الاهتمام إلّا كوننا نتلقى درساً. نحن اليوم في مرحلة الإسهام في التفاعل ونريد لنا حضوراً وفلسفة تسوّغ هذا الحضور أو علما نستدل بحقائقه. نريد أن نعرف مدى تواصلنا أو مدى وصول خبرات
نا و "حالنا" مشاركةً في الفهم أو في العاطفة. 
كيف نستطيع التواصل او "تبادل الايصال"  وفي داخلنا اكثر من شعور فاعل لحظة الكتابة او الكلام؟ في حال كهذه، ليس ما يصل مكتملاً أو خالصاً. العلوم الحديثة ترى التوصيل تجاوزاً للازدواجية، واننا نخلص لما نريد ايصاله. وهذه مسألة ليست هينة كما تبدو. فربما هو هذا سبب البحث عن سكينة عميقة وتأمل أو تفرّغ  لموضوع الكلام او الكتابة. تفسير هذا اننا نكون في حال التخلص من الازدواجية. 
في الشعر وفي الرسم صفاء التجربة مسألة مهمة، بل أساسية لكل نجاح أو تميّز. منح تمام التفكير أو تمام العاطفة والانشغال الكلي في موضوع ما، قصيدة أو لوحة أو مقطوعة موسيقية، يشمل هذا الحال في قراءتها أو النظر إليها أو سماعها.
لاحظ الفلاسفة أنّ منظومة التواصل المنطقية، إذا أريد لها ان تعمل بكفاءة، فمطلوب لذلك معالجة "ملامح داخلية". كان أفلاطون يظن ان منظومة التواصل المنطقية تتطلب توحيداً بصورة تعاون بين اقسام الروح.. وهذا المعنى لا يختلف عن القول: توحدا مع اجزاء الذات او انصراف اجزاء الذات كلها الى ذلك العمل، أي التواصل.
في الكتابة الابداعية، شرط ان نتخلص من خداع الذات او من بيعها أو المزاوجة في اهتماماتها.
وهذا يعني خلوص الكتابة لما نكتب عنه، وكل ما اكتمل خلوصها ارتفع شأنها واكتسبت الثناء. ودرجات عدم الاكتمال او عدم الصفاء هي وراء درجات الجودة! وطبعا اذا تيسّرت المهارة والغنى الثقافي ليأتي التعبير عن الرؤية حاملاً اخلاص الكاتب وغناه الى المتلقي. اختلاف الموضوعات واختلاف أو تعارض المشاعر يعني أننا أمام نصوص الاضطراب أول 
صفاتها. 
أذكر تجربة شخصية تلقيتها كأي حدث أو توجيه. ولكني اليوم أجدها في سياق ما أتحدث عنه: اصطناع أي كتابة أو اصطناع أي فن يسقط من النص أو من الفن أي قيمة أساسية. فهو هنا يتضمن خداعاً للذات. أعني عدم اخلاص. هو يعني عدم أمانة في التوصيل ويعني إيصال المشوب!
مسألة أخرى مسألة وصول المفهوم مع المواقف والصفات التي يراها هو له، مجموع هذه يشكل رؤية خاصة. وهي أيضاً تستوجب مدى من صفاء عناصرها. 
اعمال مثل هذه لا تكشف حال الذات الحقيقية بتمامها ولا توصلها سليمة. وهذا يوصلنا الى مسألة خطيرة لها فعل في حياتنا الاجتماعية. هي ان أي فرد لا يمثل الشخصية العامة لمجتمعه أو منظومته حتى اذا قام بأشياء منطقية وسليمة. الذوات عادة مختلفة ودرجات نقاء رؤاها مختلفة. والمشاعر العامة لها علاقات بالهدف أكثر مما بالذات. فالهدف أصفى كيانا وأطول ثباتاً وتغيراته متباعدة لا كالافراد 
الاحياء. 
فسواءٌ كان فرداً أو كان عملا، سند التفوق وسلامته أن يبتعد عن الزيف. المشاعر الزائفة أكثر وضوحاً من الاشياء المادية أحياناً!
أظنها واحدة من الاشكالات الإنسانية الدائمة: كيف يُفهِم الآخر وكيف يَفهم الآخر، معنى هذا ثمة تواصل حميم هنا سر ارتياح الفرد الى الآخر الذي ينظر إليه كما ينظر لنفسه. 
الآداب والفنون والافراد في الحياة، في جهاد دائم لتحقيق هذا المطلب. وهنا أفهم لهفة وتساؤل منتج الادب والفن: كيف رأيتَ ما قرأت؟ أو ما رأيت؟ هو للتأكد من مدى الافهام ومدى التوصيل. الألفة الشخصية وألفة الأساليب تقدمان عوناً في هذا الشأن. وتخصص بعض النقاد بموضوع أو بكاتب أو فنان، يعني اتساع مدى الألفة بينهما، وهذا يعني اتساع مدى التواصل ايضا.