جمال جمعة
معابد فينوس
قد لا يعرف الكثيرون أنّ الجامع الأموي في دمشق، والذي تمّ إنشاؤه فوق كنيسة القدّيس يوحنّا المعمدان، إنّما كان في الأصل معبداً لأفروديت. ومن الطريف أنّ لهذا الجامع ثلاث مآذن، إحداها مسمّاة نسبة للحيّ الذي يطلّ عليه «الكلاسة»، أمّا الأخريان فقد أُطلق عليهما اسما «العروس» و «البيضاء»، وهما من صفات أفروديت. كما أنّ هناك شكوكاً قويّة تؤكّد بأن الشكل المثمّن لمسجد قبّة الصخرة ترجّح إقامته على معبدٍ سابق لعشتار، الاسم الآرامي لأفروديت
أو فينوس.
كانت النساء تدخل معابد عشتار أو فينوس لممارسة الدعارة المقدّسة، وهو نذر تقديم الجسد مرّة واحدة لرجل غريب مقابل قطعة نقدية. وتوحي قصيدة المتجرّدة بشيء من الدياثة الإغوائيّة لجسد المرأة ولذاته التي لم «يذقها» الشاعر لكنه يغري الآخرين بها، مثله مثل التاجر الذي يدعو الناس إلى بضاعة نادرة، ولننظر كيف قام الشاعر بمهمته بعد مرور خاطف على مجلس عبد الملك بن مروان.
هرمونات القصيدة
فاجأ عبد الملك بن مروان جلساءه يوماً بسؤال مباغت:»أتعلمون أنّ النابغة كان مخنّثاً؟»، قالوا:»وكيف ذلك يا أميرَ المؤمنين؟»، قال:»أوَما سمعتم قوله، يعني هذا البيت (سقط النصيف …)، واللهِ ما عرفَ هذه الإشارة إلاّ مخنّثٌ». [معاهد التنصيص على شواهد التلخيص ـ العباسيّ]
يلفت عبد الملك بن مروان، إذا صحّت هذه الرواية، الى حقيقة نقديّة طبعت الشعر العربيّ الكلاسيكيّ في المرحلة الوثنيّة بطابعها المميّز، وهي فحوليّة الشاعر أو «دونجوانيته» إن صحّ التعبير. فشخصيّة الشاعر، الذي عادة ما تكون تجربته محوراً لقصيدته، تكتسي بملامح الشجاع الفارس، الذي تتهافت النساء عليه، ولا ينفكّ أن يفصّل أدنى تفاصيل العلاقة الجنسيّة مع خليلته كنوع من الفتح الجنسيّ الذي يستحق المباهاة والإجهار. إلاّ أنّ كلّ ذلك يغيب عن هذه القصيدة منذ مطلعها الذي يقول فيه:
أمِن آل ميَّةَ رائحٌ أو مُغتَدِ
عجلانَ ذا زادٍ وغَيرَ مُزوَّدِ؟
يسائل الشاعر هنا شخصاً ما، ربّما نفسه، إن كان رائحاً أو مغتدياً من مضارب آلِ «مَيّة» التي من المفترض أن تكون محبوبته، وهو سؤالُ مُستثبتٍ لا سؤال شكّاكٍ، فالرحيل قادم لا محالة، لكنهّ ليس رحيل تلك المحبوبة كما هو معتاد في الشعر العربيّ التقليديّ، بل رحيل الشاعر نفسه، وهو بذلك يقيم حالة من التقمّص السايلكوجيّ الاستعاضي مع المعشوقة «الأنثى»، التي يفترض بها أن تكون عاطلة الحيلة والقرار في مصيرها الشخصيّ الذي
هو الرحيل.
زعمَ البوارحُ أنّ رِحلتنا غداً
وبذاك خبّرَنا الغرابُ الأسودُ
يتأكّد غياب القرار الشخصيّ في البيت الثاني، فزمن الرحيل غير مؤكد له، لأنّه ليس بقراره كما يبدو، فمعرفته به لا تزيد عن الظنون والزعم الذي تنبئ به تحوّلات الطبيعة كهبوب البوارح (الرياح الشديدة الحارّة) أو نعيب الغربان
المشؤوم.
وهنا يقع كسر عجيب في رَويّ القصيدة، إذ تنتقل القافية من حالة الجرّ الى الرفع، وهو ما يسمّى بالإقواء، ويعني مخالفة حركة رَويّ القافية لسابقتها، فتتحوّل هورمونات القصيدة من ذكوريّة غائمة الى أنثويّة في البيت الذي يليه. ويقال إنّ النابغة لم ينتبه الى إقوائه هذا إلّا بعد أن غنّته جاريةٌ في يثرب شعره هذا. {الديوان}
لا مرحباً بغدٍ ولا أهلاً بهِ
إنْ كان تفريقُ الأحبّةِ في غدِ
تتجلى خنثويّة القصيدة في ردّ الفعل الموازي لهجران الحبيبة المزعومة، فالمرارة في حلق الشاعر هنا ليست كمرارة أمرئ القيس الذي يقول في يوم الوداع «كأنّي غداة البين يومَ تحمّلوا، لدى سمرات الحيّ، ناقف حنظلِ»، ولا مساءلة للنفس عن طاقتها الرجوليّة لتحمّل ذلك الهجران كمساءلة الأعشى لنفسه «وهل تطيقُ وداعاً
أيّها الرجلُ؟».
فليست الاستجابة هنا سوى دفع كلاميّ، أنثوي الشحنة، يكشف عن طبيعة الطاقة الشعورية البالغة الميوعة عند النابغة، ويتأكد ذلك بقوله «لا مرحباً بغدٍ ولا أهلاً بهِ»، الذي لا يلبث أن يردفه بمساحة سايكلوجية للتراجع عن عدم الترحيب بهذا الغد «إن كان تفريق الأحبّة في غد»، فالشاعر، الذي يواصل تقمّص دور العاشقة هنا، لا يزال غير متيقن من مصيره الشخصيّ.