الثقافات والأديان والعلمانية في سياق العولمة
ثقافة
2020/01/13
+A
-A
الكتاب : البحث عن الشرق المفقود
المؤلف : أوليفييه روا
ترجمة : رندة بعث
الناشر : دار الساقي
يناقش المؤرخ الفرنسي أوليفييه روا المهتم بالإسلام السياسي في كتابه (البحث عن الشرق المفقود) تجربته الطويلة بعد رحلات إلى أفغانستان وآسيا الوسطى، وكيف استطاع صقل مفهومه للعالم الإسلامي، وتعقيدات هذا العالم في التاريخ الحديث. يقدم روا مقاربة مميزة لموضوعات الإسلام السياسي، و(اختراع الأمم) في فترة ما بعد الحقبة السوفييتية، وعلى نحو أوسع مآل الثقافات والأديان والعلمانية في سياق العولمة المتعثرة
الكتاب يعد سردا حيا ومثيرا لأحداث ومدخلا لتسجيل ملاحظات عدة محفزة للتفكير في الوضع الراهن. فضلا عن انه امتداد لفكر روا ومساره منذ سنوات التزامه الأولى في فرنسا. الكتاب يحوي على روايات عديدة عن تجارب مر بها أثناء ترحاله من باريس إلى العاصمة الأفغانية كابول، ويتأمل من خلال ذلك في طبيعة الانهماك السياسي والإنساني في والبؤس الاقتصادي لتلك الأقاليم. كما يتأمل في السنوات التي شكلت شخصيته وتعلمه وتطور آرائه السياسية والتزامه بها ضمن عوالم فرنسا الثقافية. اوليفييه روا كاتب وباحث فرنسي متخصص في الشؤون الإسلامية. صدرت له في العربية الكتب الآتية : الإسلام والعلمانية، و الجهل المقدس، و تجربة الإسلام السياسي، و عولمة الإسلام، و الجهاد والموت.
بحث عن الشرق المفقود
يقدم الكتاب الجوانب الشخصية والبحثية لـ روا وكيف جاء اهتمامه بموضوع الإسلام السياسي فضلا عن تقديمه العمل من وجهة منظور رجل رحالة يعشق السفر والتعرف على المجتمعات والثقافات الجديدة. من مدارس باريس، مرورا بشوارع إسطنبول فى تركيا، إلى جبال أفغانستان، ومدن وسط آسيا، انتهاء بالعالم العربي، وهى رحلة عكسها عنوان الكتاب (بحثا عن الشرق المفقود). بدأ روا رحلته لاستكشاف الشرق، مع مجموعة من الرحالة في العشرينيات من عمره، من تركيا مروراً بطهران وصولاً إلى أحياء كابول التى كانت تضج بالحياة أوائل السبعينيات، بعدما سمع عنها حكاياتٍ كثيرة من الأصدقاء، لم يذهب إلى أفغانستان، بحثا عن الحشيش، كما كان يفعل أقرانه ضمن موجة الانفتاح التى جسدتها ثقافة الهيبز آنذاك أواخر الستينيات، وهو الذى يقول عن نفسه إنه لم يسع إلى تقليدهم، سواء في شعورهم الطويلة أو في خروجهم عن المألوف أو جنونهم بالموسيقى، وإنما كان يبحث عن سحر الشرق المفقود. بعدما وصل فوج الرحالة إلى مدينة هيرات، كما يقول روا إنه قرر أن يتركهم، ويبدأ رحلته الاستكشافية وحده، وأن تطأ أقدامه شوارع وطرقات ومدنا لم يصل إليها شخص أبيض قبله، إنه شغف المعرفة الذى كان يحركه ، عندما وصل إلى مقاطعة نورستان فى شرق أفغانستان، التى تتميز بطبيعتها الخلابة، تنقل روا بين قرى أفغانستان، واستضافته عائلاتها الفقيرة، وخلال الثمانينيات، بدأ روا جولة أخرى لاستكشاف الشرق، ولكن من بلدان آسيا الوسطى التى ذهب إليها، هذه المرة، في وظيفة رسمية، وبعدها بدأ في التركيز على مجال البحث والكتابة، خصوصا عن الإسلام والإسلاميين. يروي اوليفييه في الكتاب رحلاته العديدة وما واجهه فيها من أمور، إيجابية وسلبية، في أثناء بحثه عن البيئات السياسية والاجتماعية العديدة التي التقاها، وكيف أسهمت تلك اللقاءات في تشكيل فهمه للعالم الإسلامي وتاريخه الحديث. الكتاب رواية شخصية وصريحة قادته إلى التخلي عن تصوراته السابق في أن الشرق (الرومنطِيقي) لم يتغير عبر القرون، وتشكل إطارا جديدا لفهم أفضل يتناسق مع ثقافات الشرق والغرب ودياناتهما وسياساتهما. تفاعل روا مع مختلف جوانب المناطق التي زارها ومر بها، ومع أهلها، في وسط آسيا إبان العهد السوفييتي وبعده، قادته للقناعة بعدم صحة القول شرق مفقود وعد ذلك المدخل الرئيس للحديث في موضوع تخصصه.
الإسلام المعولم:
البحث عن الأمة الجديدة
في الكتاب نجده يتفحص الإسلام وجوانب أخرى مرتبطة به ومنها الهجرة، إضافة إلى مستقبل الأديان والعلمانية والثقافات في عصر العولمة. في رحلته من باريس باتجاه العاصمة الأفغانية كابول يتحدث الكاتب فيها من منظور الحاضر، وهذا يشكل الجزء الأول من المؤلف الذي يحوي ستة أجزاء. الجزء الثاني خصصه المؤلف لروايته عما أسماه ثورة عام 1968، أي الانتفاضة الطلابية في فرنسا التي كادت تطيح بالرئيس الفرنسي شارل ديغول. كما تحدث فيها عن تجاربه في تنقله من اليمن إلى الصين. الجزء الثالث (العقد الأفغاني) مخصص للحديث في إقامة روا في أفغانستان، خصوصاً إبان مرحلة التواجد العسكري السوفييتي هناك، وما أسماه إخفاق الإسلام السياسي. في الجزء الرابع (العقد الأوراسي)، أو (عقد وسط آسيا)، روى الكاتب تجاربه الجديدة و(الشرق المفقود والمستعاد) ثقافة المنطقة هي موضوع القسم الخامس (نحو الجهل المقدس). كما يخصص فصلا للحديث عن إيجابيات الاستشراق، وضد أصولية العِلمانيين في الخاتمة يستعرض عقدا كاملا من عام 2000 إلى عام 2010، متوقفا عند تاريخ الحادي عشر من أيلول عام 2011.
المعايشة الأنثروبولوجية
أصبحت كتبه وأبحاثه، علامة مميزة لباحثين كثيرين مهتمين بسوسيولوجيا الإسلام والحركات الإسلامية، بدءا من كتابه الشهير (فشل الإسلام السياسي) الذي صدر أوائل التسعينيات من القرن الماضي، والذي أثار ضجة كبيرة وقتها، وانتهاء بكتاباته عن العنف والراديكالية في فرنسا وأوروبا. في تفكيك تلك الظاهرة والكتابة عنها من خلال المعايشة الأنثروبولوجية، ويرى ان الإسلاميين الذين أسسوا حركاتهم السياسية منذ ثلاثينيات القرن الماضي بمصر أي جمعية (الإخوان المسلمين) التي أنشأها حسن البنا، والهند (جماعتي إسلامي) الأم المولودة عن يدي أبو الأعلى المودودي، وأخيراً بتركيا مع نجم الدين أربكان. تعد ثمرة العولمة واضمحلال الثقافة في العالم العربي والاسلامي ، وليست وليدة الإسلاموية.
فالإسلاموية ازدهرت في إطار تاريخي سمته انبعاث الدين في صورة مرجع هوية بينما كانت تنتاب القومية العربية أزمة حادة. ترجح ما بين ميل إلى الروحانية، في أحسن الأحوال، وبين انخراط في الجهادية.
الحداثة والعلمنة وعودة الديني
في مدخل العمل يتساءل المؤلف أيضا: (لماذا يصبح عشرات الآلاف من المسلمين في آسيا الوسطى مسيحيين أو شهود يهوه؟ ولماذا تجد الكنيسة الكاثوليكية كثيرا من العناء في الاحتفاظ برعاياها، وتشهد هبوطا في عدد الملبين لدعوة التكريس للكهنوت في الغرب؟ لماذا تستهوي السلفية الجذرية شبانا أوروبيين بيضا أو سودا؟ وكيف أضحت السلفيات التي تضم أكبر نسبة مئوية من المتحولين إلى الإسلام؟ بل إنه يفاجئ القارئ بالحديث عن كوريا الجنوبية التي باتت اليوم تقدم قياسا على سكانها، أكبر عدد من المبشرين البروتستانت
حول العالم.
هل هي صحوة دينية أم فرز طبيعي لما قال به صموئيل هنتنغتون من قبل عن صراع الثقافات المتخفي في ثياب المواجهات الدينية؟ يرى روا أن نظرية صدام أو حوار الحضارات لا تتيح فهم هذه الحركات المزعزعة التي تخلط الخرائط والأقاليم والهويات، وتحطم الروابط التقليدية القائمة بين الدين والثقافة.
ويطرح اوليفيية سؤال جوهري: ما الذي يحدث عندما ينفصل الدين عن جذوره الثقافية؟ أو على نحو أبسط: لماذا تبدو الأديان اليوم وكأنها هي التي تضطلع بإعادة ترتيب للهويات؟