جينات الخير!!

الصفحة الاخيرة 2020/01/14
...

حسن العاني 
في منتصف العقد الخامس من القرن الماضي على ما اذكر، وأنا تلميذ في الصف السادس الابتدائي، حصل شجار بين اسرتين من سكنة محلتنا (الجعيفر) بسبب (عركة) اعتيادية مما يقع بين الاطفال... انتقلت عدواها الى الامهات والنسوان، ولم تلبث ان تحولت الى ازمة بين الرجال... ومع ان المشكلة كانت أكثر من تافهة لان ابطالها اطفال، ولكنها وضعت العلاقة بين الاسرتين على كف عفريت، وجعلتها قابلة للانفجار في اي وقت، ومن هنا بادر أحد وجهاء المحلة واقام دعوة غداء بعد صلاة الجمعة، حضرها مختار الطرف وبعض رجالات المحلة زيادة على افراد الاسرتين بمن فيهم النساء.. وفي اجواء من الالفة والمرح تولى المختار وصاحب الدعوة اجراء الصلح بين الطرفين... وشهد الاجتماع مصافحة وعناقاً واعتذاراً وانتهى كل شيء..
لم تكن تلك هي الحالة الوحيدة التي شهدتها، فقد (عشت) وقائع مماثلة لها في سنوات لاحقة من العمر، وفي مناطق سكنية متباينة، وكانت بعض تلك الازمات والمشكلات اشد خطورة، ومع ذلك فالخيرون دائماً جاهزون لجمع الخصوم على دعوة غداء او عشاء.. وبتدخل كبار السن والوجهاء واصحاب الحكمة، يتم ردم الخلاف واجراء الصلح.. واياً كان حجم المشكلة، حتى لو اقتضت تعويضات مالية او مادية، فان الطرفين المتنازعين يرتضيان بالحل الذي يصدر عادة عن حكماء المحلة وعقلائها (بغض النظر عن وجود حالات نادرة يمارسها بعض المتخاصمين الحقراء فانهم يستغلون الخيرين وطيبة اصحاب الدعوات..) وتوصلتُ الى قناعة أكيدة مفادها ان العراقيين ليسوا متطرفين في كرمهم فقط، بل هم كذلك (خيّرون) بتطرف، ودعاة صفح وعفو وسلم...من طريف (مسموعاتي) في هذا المجال ان شاعر العراق الكبير معروف الرصافي وقعتْ له خصومة مع (توفيق السويدي)، وهو سياسي كبير شغل العديد من المناصب الوزارية في النظام الملكي، ولكي يعيد (الخيّرون) العراقيون – على عادتهم – المياه العذبة الى سابق جريانها، فقد تولى احدهم اقامة حفلة دعا اليها السويدي والرصافي ومجموعة من كبار الساسة ومثقفي العراق، وفي جوٍّ من الود والمزاح، أراد صاحب الدعوة ان ينقل تلك الاجواء الى طرفي الخصومة كمقدمة لاجراء الصلح (ويبدو انه اتفق سلفاً مع الاخرين)، ولذلك سأل السويدي (باشا .. شلون الدنيا وياك)، فردّ عليه وكأنه فطن الى ما يخبئه هذا السؤال الغريب (مو خوش دنيا.. بس مع ذلك .. سوي معروف وذبه بالشط) ونطق جملة (سوي معروف وذبه بالشط) بصوت سمعه الحضور جميعاً والذين لزموا الصمت لسماع الحوار، وهنا التفت الرجل الى الرصافي واعاد عليه السؤال نفسه، فردّ عليه في الحال (الحمد لله.. الدنيا خوش دنيا.. بس توفيقنا طايح حظّه)، فضجّ المكان بالضحك، ونهض الضيوف واجبروا المتخاصمين على الصلح و.. وتمّ فعلاً تجاوز الخلاف.. هذا هو العراقي، لم يتغير.. حاضنةٌ للخير والمحبة والكرم والطيبة، حتى ان جينات (الخير) بلغت به الى الحد الذي يتفرج فيه على الصواريخ الاميركية والايرانية وهي تمارس احقادها المتبادلة على ارضه!!