من القريض الى القروض

ثقافة 2020/01/14
...

حسين الصدر
 
- 1 -
قال عبد الرحمن بن أبي ليلى :
انصرف الشعبي يوماً من مجلس القضاء ونحن معه، فمرّ بالخادم تغسل الثياب وتقول :
فُتِنَ الشعبي لمّا فتن الشعبي لمّا ولا تُجيز البيت (اي لا تكْملُه) 
فلقّنَها وقال :
رَفَعَ الطَرفَ اليها 
وهي أبيات قبلت إثْرَ مرافعةٍ تقدّمت بها جميلة اليه، 
فسألها البيّنة 
فقيل لها :
ما صنعتِ ؟
فقالت : سألني البيّنة 
ومن سُئل البينة فقد فلح، فقال هذيل الاشجعي ابياتا، منها قوله 
 
فتن الشعبي لمّا           
رفع الطرف إليها 
 
ومشت مشيا رويداً      
 ثم هزّت منكبيها 
 
فقضى جوراً على الخصم ولم يَقْض عليها .
وهذه الابيات شاعت بين الناس وتَمَّ تداولها بشكل كبير، حتى بلغت الشعبي فأمر بضرب قائلها (الاشجعي) ثلاثين سوطاً ..!!
انتقم لنفسه من الأشجعي ولكنه لم يستطع أنْ يحول بين الناس وبين تداولهم للابيات
وحين سمع الشعبي الخادم تغسل الثياب وتذكر صدر البيت وتعجز عن قراءة عجزه بادر الى إخبارها بكامل البيت 
وقال : أبعده الله – وهو دعاء على الاشجعي قائل الأبيات –
ثم عقّب على ذلك بقوله : " اما انّا ما قضينا الاّ بحق "
أقول : هكذا كان الشعر يتسرّب الى مختلف الشرائح ويصل الى شتى البقاع 
انّ المرأة التي تتعاطى مهنة غسل الثياب لم تكن بعيدة عن التلذذ بالشعر وكانت تحاول ان تحفظه ..!!
واذا أردنا المقارنة بين (غسّالة الثياب) وبين طبقة كبيرة من حاملي الألقاب، نجد أنها تفوُقهم باهتماماتها بالشعر، واذا دلّ هذا على شيء فانما يدل على انحسار منسوب العناية بالآداب والعزوف عن التفاعل الحقيقي مع التراث .
وهي ظاهرة مؤسفة للغاية .
 
- 2 -
وقال احد الشعراء :
لقد كان القريضُ سميرَ صدري 
فألهتني القروضُ عن القريضِ
كانوا يقولون عن الشاعر :
{أدركته حِرفةُ الأدب} 
وحرفة الأدب تذيقه ألوانا من الحرمان والمعاناة وقلة ذات اليد ...
 
- 3 -
ان الأماديح التي نقرؤها لكبار الشعراء بحق ذوي السلطة والجاه والثراء لم تكن في الغالب إلّا بسبب حاجاتهم الى المنح والصلات التي يجود بها عليهم الممدوحون
 
- 4 -
انهم يضطرون – بدافع الحاجة – الى الوقوع في فخ  "النفاق" فالممدوح في كثير من الاحيان لا يستحق إلّا الذم والهجاء لكونه من الغلاظ القساة الممعنين باجتراح الجرائم والمظالم، ولكنه قادر على انعاش اوضاع الشاعر واخراجه من الضيق والحصار ...
 
- 5 -
ويكفينا هنا التذكير بالقصائد الرنّانة التي دبّجها "المتنبي" بحق كافور الأخشيدي طمعاً بعطاياه وما كان يأمله منه... وقد خابت ظنونه فانقلبت الأماديح الى هجاء مقذع ..!!
والبيت الذي استشهدنا به يصوّر بشكل جلي حالة الشاعر الذي ركبته الديون وأثقلت كاهلة بالاعباء فلم تعد الأجواء التي يعيشها وهي ملبّدة بالغيوم – ملائمة للاستمرار في أعماله الشعرية وابداعاته الأدبية ...
وكم خسر الأدب بسبب هذا الانكفاء عند هذا الشاعر أو ذاك ...
 
- 6 -
لقد كان الشعر (ديوان العرب) 
أما اليوم فإنّه لم يَعُد يحتل في حياتهم ما يجب أنْ يحتله من مكانة متميزة وعناية فائقة ...
 
- 7 -
وللعراقيين مع الشعر حكاية خاصة – ذلك انّ منهم شعراء مطبوعين احتلوا الصدارة في نادي الشعر العربي. 
وهناك كم هائل من الطاقات الشعرية ينتظر المناخ الملائم للظهور ..
والسؤال الآن :
من الذي يبادر الى تفجير تلك الطاقات من مكامنها؟