منذ زمن بعيد انشغل الفلاسفة وعلماء النفس ونقاد الأدب بموضوع المكان، وقالوا فيه ما يوجع الرأس من نظريات وكلام يصعب فهمه، ولو تجرأتَ وسألتهم لماذا تكتبون بلغة معقدة غامضة لا يمكن إدراك مضامينها او فهم معانيها، ردّوا بعنجهيّة ابي تمام ونرجسيته وغروره (ولماذا لا تفهم ما يُقال) فتضطر الى السكوت وفي حلقك مرارة عندما تصبح لغتك عصيّة عليك!
من فضل الله ونعمته أنّه أبعد جيناتي عن علوم الفلسفة والفلك والنقد، ولذلك فهمت المكان بأعلى درجات اليسر والسهولة، على أنّه البيئة التي تؤثر في حياة الكائنات الحية، سواء على المستوى النفسي والفكري أم على المستوى السلوكي والإبداعي والانتاجي، وعلى هذا الاساس فإنّ مفهوم البيئة من حيث هي مكان مفتوحة الحدود واسعة المعاني، إنّها السكن والأسرة والمجتمع والموروث والتقاليد والمناخ وطبيعة المنطقة..الخ
عن طريق الملاحظة العفويّة وليس الدراسة الاكاديميّة، انتبهتُ الى أنّ البيئة المكانيّة لتلامذة (الروضة) تقتضي توفير جملة من المستلزمات التي تجعل من الروضة (المكان) قادرة على التناغم مع عمر الطفل والنهوض بعاداته الحضارية والتربوية والصحية الى أفضل مستوى، مع العمل على تفجير طاقاته الإبداعيّة، ومن هنا تتولى رياض الاطفال توفير (المناسب) من كل شيء، حجم الرحلات، وسائل الايضاح، الألعاب، الطعام، مفردات التخاطب والقائمة تطول.. ومثل هذه المستلزمات لها صور أخرى لدى طلبة المتوسطات والاعداديات، ويمكن لنا جميعاً أن نلاحظ أنّ مكان الدراسة في الجامعة هو غيره في الدراسة الثانويّة، الطالب الجامعي على سبيل المثال يمتلك نادياً او كافتريا او مطعماً في كليته، وبمقدوره أن لا يدخل اية محاضرة، مفضلاً عليها الجلوس مع مجموعته وتمضية وقت ممتع مع أخبار الانترنت او آخر النكات او المغامرات، وآية هذا التباين المكاني، أنّ الطالب الجامعي بلغ سن الرشد وتجاوزه، وصار بإمكانه تحمّل مسؤولياته؛ ولهذا فإنّ البيئة المكانيّة تتماشى مع ارتباط المؤسسات الجامعية بوزارة (التعليم) في حين مازال طلبة المرحلة المتوسطة او الاعدادية يخضعون لقوانين وزارة (التربية)...
وخلاصة القول إنّ الانسجام او التوافق بين الانسان على سبيل المثال وبين مكان عمله هو العنصر الاساس او الأكثر أهمية الذي يفجّر الطاقات الابداعيّة، ويجعل المرء يقدم أفضل ما لديه، إنّ الموظف الذي يحظى ببيئة مكانيّة مريحة تلبي رغباته ويرضى عنها، يقدم عطاء متميزاً ويتحلّى بالتهذيب والتعامل اللطيف مع المراجع، بخلاف من يُعاني من متاعب المكان، تكثر أخطاؤه ويقلُّ انتاجه ويتصف بالغضب، وهذه القاعدة الذهبيّة تنطبق على الطبيب والأستاذ الجامعي والقاضي والعامل والأديب وعلى الجميع، ومن هنا أقول: لكي يقدّم نواب الشعب أفضل ما لديهم، ولكي لا تبقى نسبة الغياب عالية وتخلُّ بالنصاب، اقترح التخلي عن الجلوس تحت القبة البرلمانيّة وعقد الاجتماع في مكان أفضل.. هو كافتريا البرلمان...