الدلالةُ المعرفيّةُ

ثقافة 2020/01/22
...

محمّد صابر عبيد
 
الاستعارات حياة اللغة الداخلية العميقة وزهرتها الفوّاحة دائمة النموّ وناشرة العطر في الأرجاء والزوايا والظلال والأنحاء، ولا يمكن للغة أن تعيش بلا فعاليّة نوعيّة استثنائيّة للاستعارات وهي تصنع المعاني وتزوّدها باللون والطعم والرائحة، وبما أنّ الاستعارة في صورتها الضمنيّة وتشكيلها القائم على إنتاج الدلالات هي المعنى البلاغيّ القادر على صياغة الحياة في أنموذجها اللغويّ، فإنّ النظر سيتركّز حول كيفية الحصول على المعاني من تشابك الألفاظ وتداخلها وانسيابها وحراكها الخاصّ عن طريق ما يحفّزها من إمكانات لغويّة، فلا يولد المعنى المنشود من دون طاقة التحفيز التي تنشّط حيوات اللغة وتدفعها باتجاه استنفار مكامن إنتاجها
 وهذه الصفة التحفيزيّة التي تقوم بها الاستعارات لإنتاج حركة اللغة المطلوبة هي جوهر ما يمكن أن نسميه فقه اللغة الأدبي، فمستخدمو اللغة تزخر حيواتهم بالمعنى حين ينجحون في استثمار طاقة التشكيل الاستعاري فيها.
ينهض الإدراك بشبكة من الآليّات المتحكّمة في ترسيم وعي اللغة لأجل تزويدها بالممكنات الفاعلة للحركة والعمل، لأنّ اللغة ترتبط على نحو عميق وأصيل بخصوصيات الإدراك البشريّ التي لا يمكن التعبير عنها إلا باللغة، بحيث تكون العلاقة بين فاعلية الإدراك وخصوصية التجربة هي الفاعل الأبرز للظهير الأوّل والأقدم في تغذية اللغة بما يمكن من رصيد المعنى، والتجربة على هذا النحو هي مجموعة عوامل تفعل فعلها في الإدراك لتعميق مركزية البعد المعرفي عند البشر، لذا يستحيل فصل التجربة عن الإدراك، أو إعفاء الإدراك من الإسهام في نقل التجربة من شكلها المنفصل إلى محتواها المتّصل، بالمعنى الذي يساعد في قيام المعاني اللغوية وتأويلها والمعاني غير اللغوية أيضاً، لأنّ حركة المعنى المحروسة بالإدراك والحاملة للتجربة هي ما يضمن حضور الاستعارات بكامل طاقتها القادرة على تأمين ما يحتاجه البشر من حياة 
داخل اللغة.
لا يمكن للمعنى أن يُصنع من فراغ ليتحرّك في فراغ ولا ينتج عندها سوى الفراغ، إذ لا بدّ أن يُسند المعنى إلى شيء ما بالغ القوّة والرصانة كي يتوفّر على الحجاج المطلوب للغة، فالمعنى ينبغي أن يتمّ إدراكه حتّى يحقّق التواصل المطلوب بين مُنتِج اللغة ومستهلِكِها، وهو الجوهرة التي تعمل اللغة على صوغها بالطريقة التي تظهر كأجمل ما يكون في شاشة الظهور والعمل والتفاعل، فلا تنجح عملية تلقّي الجوهرة بلا قوّة إدراك مرادفة لإسناد المعنى وقيامه في منطقة الحراك اللغوي على الصعيدين الدلالي والجمالي معاً.
لا تحيا اللغة في مراحل عملها كلّها من دون الاتصال بالمحيط على وفق سياسة وستراتيجية قائمة على أعلى درجات التفاهم والتصالح والانضباط، فالمحيط هو الفضاء الحيّ الذي يسمح للغة بالحركة في سياق حرّ يفيد من وجود زمان ومكان لا بدّ منه للاحتواء والتمثّل والأداء، ولا يتمّ ذلك إلا بفعل قوّة الإدراك التي تجعل العلاقة بين اللغة والمحيط صالحة للتفاعل، فالجدار الأوّل هنا هو الإدراك حين يسمح بحضور طريقة خاصّة للتفاعل بينهما قادرة على التحوّل نحو منطقة الفعل، ومنطقة الفعل هذه لا يمكن لها أن تصل إلى درجة التكافؤ المطلوب من دون حساسية الانفعال القادرة على تمثيل الرؤية الآنية للغة في فضاء المحيط، وبهذا تستطيع اللغة أن تعبّر عن نوعية الاتصال وخصوصيته وتخبرنا بتفاصيله وإجراءاته ومقاصده على نحو أصيل
 وفاعل ومنتِج.
رصد حركة المعنى وتبلوره في ميدان اللغة يعتمد على فلسفة عمل اللغة في مساحة التجربة، وتتوقّف قوّة هذه الحركة وضعفها وقيمتها وسبل تطورها ونضجها وحداثتها على الخزين الذي تحتويه التجربة، وفي قدرة هذا الخزين على تموين أدوات اللغة بالدلالات وتزويدها بآليّات قادرة على إنتاج المعنى ضمن نظام إنتاجي خاصّ، وحركة المعنى هذه لا تتمّ ولا تُكتب لها الحياة بلا زخم معرفي كائن في ثقل التجربة وحيويتها وانطلاقها واستعدادها للتواصل والتمثّل والتفاعل، بحيث تكوّن حركة المعنى جوّاً من التركيب والتعبير والتشكيل يعمل في أكثر من اتجاه، وبما يضمن استمرارية هذه الحركة بقوّة نفوذ طاغية، حتّى يكون بوسعها خلق الاستعارات المطلوبة التي لا تتماثل للكينونة بلا وجود سابق تتلاحم فيه طاقة التجربة المتنوّعة والمتعدّدة، واستعداد لغوي رحب في أعلى درجات تقبّله لاستقدام حيوات التجربة وتوفير كامل ممكنات الاشتباك والتعاشق والاندماج معها.
تنشأ العلاقة الوثيقة في هذا الإطار بين التجربة واللغة على أكثر من صعيد وداخل أكثر من حساسية ورؤية ومنهج، فالتجربة من دون لغة تعبّر عنها وتمنحها الوجود الاستعاريّ المطلوب لا حياة لها ولا أثر ولا قيمة ولا معرفة ولا جمال، واللغة من غير تجربة تمثّل لها ظهيراً يموّنها بالمعنى والدلالة والسرد تبقى عاجزة عن التعبير وماكثة في منطقة المعجم المستقرّة والهادئة بلا حركة وبلا تقدّم يُذكَر، فالتجربة هي الرافد الذي يقدّم للغة كلّ مقومات الحراك والفعل والإنتاج والانتقال الحرّ من منطقة المعجم الضيّقة إلى منصّة الاستعارات المفتوحة على الآفاق جميعاً.
وهنا يمكن التركيز على الكيفية والطبيعة التي تفعل فيها التجربة داخل اللغة والكيفية التي تفعل فيها اللغة داخل التجربة، فثمّة إشعاعات مستمرّة على شكل رسائل تنطلق من حاضنة التجربة نحو فضاء اللغة، وإشعاعات أخرى بالقدر نفسه تُبثّ من فضاء اللغة نحو حاضنة التجربة، بطريقة تؤلّفُ حراكاً متدفّقاً يؤسس لما اصطلحنا عليه “حركة المعنى”، وهذه الحركة هي البؤرة الأساس لانطلاق الاستعارات في تشكيل المعنى الأدبي بين التجربة واللغة.
تجري حركة المعنى هنا في معادلة جدلية لا بدّ من رصد مسافاتها ونماذج عملها ونشاطها للدخول في حقل الاستعارات التي علينا أن نحيا بها، إذ التجربة على هذا النحو هي حياة اللغة والوسط المائيّ الحيوي والفاعل الذي بوسع اللغة أن تسبح فيه بحريّة ونشاط وأمان وبهجة، فاللغة تحتاج وسطاً مائيّاً تعوم فيه كي تكشف عن قدراتها وقابلياتها وإمكانتها المخزونة التي تحتاج إلى تحفيز وإثارة وتحدٍّ،
وتنتج المعنى المطلوب في حالة حركة دائمة ودائبة تؤمّن للاستعارات وجودها الحيّ في ماء اللغة، وتوفّر لنا الحياة الحرّة المعطاء
في قلبها.