جواد علي كسّار
دفعه مرض طفله البالغ من العمر سنتين، إلى ترك بلده العراق والتوجّه صوب النرويج. حطّ في أوسلو شهر أيار سنة 1968م، وراح يبحث بالموازاة مع علاج طفله عن عمل يؤمّن نفقات عائلته، خاصّة بعدما أخبره الأطباء أن علاج طفله يتطلب مكوثه طويلاً في النرويج.
كان قد مرّ على تخرجه من لندن متخصصاً بجيولوجيا النفط حوالي عشر سنوات، شغل فيها وظائف متعدّدة في شركة نفط العراق، لذلك دفعته خُطاه إلى أبواب وزارة الصناعة في العاصمة أوسلو بحثاً عن فرصة عمل. من حسن طالعه أن النرويج كانت قد شهدت اكتشاف أول بئر للغاز الطبيعي في بحر الشمال، بتأريخ الاثنين العاشر من حزيران 1968م، ولم تكن قد تأسست بعد مديرية النفط في ذلك البلد، بل كان هناك مكتب صغير بوزارة الصناعة، يشغله ثلاثة موظفين فقط، يُدعى مكتب النفط.
استقبله أحد الموظفين الثلاثة، وتقدم إليه صاحبنا بأن تزوده وزارة الصناعة بعناوين الشركات النفطية الموجودة في البلد، عسى أن يعثر من خلال ذلك على عمل في مجال اختصاصه النفطي، فما كان من الموظف النرويجي، إلا أن استمهل صاحبنا، بالقول: لحظة واحدة فقط، وبعد ساعة واحدة فقط، قبلت وزارة الصناعة النرويجية مهندس النفط العراقي بوظيفة مستشار مؤقت بشؤون النفط، في أسرع عملية توظيف بتأريخ النرويج كله، لتبدأ منذ ذلك التأريخ قصة نجاح نرويجية بقيادة البصري العراقي فاروق القاسم، تحوّلت بعد ذلك إلى قصة نجاح عالمية، عبر ما راح يُطلق عليه “الأنموذج النرويجي” في إدارة المنابع البترولية. ما ثمّة مبالغة بأيّ شكل من الأشكال في أن يكون رائد التجربة النرويجية في النفط، مهندساً عراقياً وضع مرتكزات التجربة وشيّد مقوماتها، وحوّلها على مدار عقدين ونيّف من العمل المتواصل، إلى أنموذج نجاح يُقتدى به. فبالإضافة إلى ما تحفل به الشبكة العالمية للمعلومات حول الرجل وتجربته الريادية، ومجموعة اللقاءات التلفازية معه وعنه في أوروبا والعالم العربي، بين أيدينا المدوّنة المكتوبة التي تُوثّق لهذه التجربة باللغتين النرويجية والعربية، إذ صدرت الترجمة العربية، بعنوان: “النموذج النرويجي: إدارة المصادر البترولية” (عالم المعرفة، العدد 373 آذار 2010م).
لغة الإنجاز العلمي أنأى ما تكون عن الادّعاء والتبجّح، وأقرب إلى الأمانة والموضوعية، ومع ذلك نقرأ بحقّ هذه التجربة الأنموذج، شهادة رضا وامتنان كبيرة من أهلها لفاروق القاسم وجهوده المكللة بالنجاحات الباهرة، في تأسيس ما يطلق عليه “الأنموذج النرويجي”. ففي تقديمه لمدوّنة القاسم النفطية في النرويج، يقول المدير العام لمديرية النفط النرويجية كونّار بركه: “بعد قراءة تأريخ مديرية النفط النرويجية نميل إلى الاعتقاد بأن العناية الإلهية، هي التي أرسلت إلينا فاروق القاسم قبل 40 سنة”، وكان يقصد اللحظة الأولى لقدوم فاروق؛ التي تزامنت مع اكتشاف أول حقل غازي في النرويج: “في هذا الوقت ذاته يطرق جيولوجي عراقي شاب أبواب وزارة الصناعة في أوسلو باحثاً عن عمل في صناعة النفط” حيث شغل القاسم فعلاً وظيفة مستشار لوزارة الصناعة من 1968 الى 1972م، ثم مدير المصادر النفطية في المديرية النرويجية للنفط بين 1973 - 1990م. بكلمات أدبية وصف كونّار بركه، القاسم بأنه كالصقر ثاقب الرؤية، يحلق في الأعالي، عشه الجبال، كما وصف كتابه عن إدارة النفط، بأنه: “يمثّل مرجعاً قيماً لكل ما يتعلق بإدارة النفط” في النرويج والعالم، وأن: “فاروق القاسم كان يدافع عن هذا النهج في الخط الأمامي” حيث كانت: “الخبرة والتفهّم أهم أسلحته”.
لكن يبقى الإنجاز الأهم للقاسم، هو الجمع في الأنموذج الإداري للنفط، بين العلم والأخلاق، إذ يقول كونّار بركه عنه: “بعد نشر كتاب فاروق لا يمكن لأيّ شخص أن يتذرع بعدم معرفة متطلبات إدارة النفط، ومن ضمنها البعد الخلقي”. وقوله أيضاً: “أيها الشباب، إذا وجدتم صناعة النفط خالية من التحديات، فأقرؤوا كتاب فاروق”!.