الفردوس ليستْ إلّا مكتبة

ثقافة 2020/01/25
...

عفاف مطر
 
لقد كان خورخي لويس بورخيس الكاتب الارجنتيني الشهير والغني عن التعريف، يعد الكون مكتبة، وقد صرّح أنّه تخيّل الفردوس أيضا على شكل مكتبة، كان يعد نفسه (قارئ) في المقام الأول، لم يكن يقرأ سوى للمتعة، ولم يجد نفسه أبدا مرغما على قراءة كتاب حتى الصفحة الأخيرة 
يقول: «أنا قارئ ينشد المتعة: لم أشأ أن يكون للشعور بالواجب يد في شأن شخصي كشراء الكتب»، لقد كان يؤمن بأن واجبنا الأخلاقي يتمثّل في أن نكون سعداء، وآمن بأنه يمكن العثور على السعادة في الكتب، ومع ذلك لم يتسنّ له أن يُفسّر لماذا كان الأمر هكذا. ولع بورخيس بالقراءة انتقل الى محيطه بقوة، فتأثر به الكثير ممن التقوا به، ووصل تأثير بورخيس بالقراءة إلى حد أن أصبح أحد الشباب الذين انتقاهم ليقرؤوا له مقابل مبلغ معين، أن أصبح فيما بعد كاتباً، ليس ذلك فحسب، بل أن من أشهر مؤلفات هذا الشاب كانت عن القراءة، وانا هنا أقصد الكاتب الأرجنتيني ألبرتو مانغويل، أما كتبه فهي أولاً: «تاريخ القراءة» استغرق هذا الكتاب من مانغويل سبع سنوات لكتابته، وبضع سنوات أخرى للإعداد والبحث، وتلقى أثناء كتابته دعماً ماليا من عدة مؤسسات في كندا. لدى مانغويل اهتمام كبير باللوحات والفن، فهو يبدأ تاريخ القراءة بمجموعة من اللوحات التي تصور (أصدقاء القراءة في كل العصور) وهم يمارسونها، يكتب عن كل لوحة وصورة في صفحات الكتاب، ثم يقول: «كل هؤلاء قراء، كل إيحاءاتهم وقدراتهم ومسراتهم ومسؤولياتهم، والطاقات التي تقدمها لهم القراءة معروفة لدي تماماً»، يجمع مانغويل في هذا الكتاب الكثير من الحكايات والنوادر والطرائف والغرائب عن القراءة عبر التاريخ.. إن كتاب «تاريخ القراءة» هو بحث أو إجابة عن الأسباب التي دفعت الإنسان إلى حب الكتب والقراءة منذ أقدم العصور، من خلال كتابات أشهر الأدباء والفلاسفة الذين عرفوا بحبهم للقراءة والكتب، ومن خلال تجربته الشخصية أيضا. يجتاز مانغويل كل الأسئلة التي تطرح عن القراءة، وتلك التي لم يخطر على البال طرحها، مثلا ما هو الوقت المناسب للقراءة؟ هل هناك فرق بين الأدب الجاد والأدب الترفيهي؟ هل حُصرت المرأة عبر التاريخ في عصور الظلام في قراءات معينة؟ كيف كانت طقوس القراءة على مر الزمان؟ لماذا نرتبط عاطفيا بالقراءة؟ ما علاقة الترجمة بالنص؟ كيف نقلت لنا الكتب المزاج الثقافي في كل حقبة تاريخية؟ كيف اختلفت القراءة بين طبقات المجتمع؟ وما الفرق بين قراءة المحترف وقراءة المبتدئ؟ وغيرها من الاسئلة. أما الكتاب الثاني فهو «المكتبة في الليل» إذ يقول مانغويل «في الليل حين توقد مصابيح المكتبة، يختفي العالم الخارجي، ولا يبقى في الوجود سوى فضاء الكتب.. في الظلام والنوافذ مضاءة، وصفوف الكتب تتألق، تبدو المكتبة فضاءً مغلقا، كونا من قواعد متزمتة، تحل محل أو تترجم تلك القواعد السارية في الكون الآخر عديم الشكل... في الليل.. الأصوات تمسي مكتومة والأفكار يعلو صوتها.. الوقت يبدو أقرب إلى تلك اللحظة في منتصف الطريق بين اليقظة والنوم... بِرَك الضوء التي تتسرّب من المصابيح تشعرني بالدفء. وفي رائحة الرفوف الخشبية وعطر المسك المنبعث من الأغلفة الجلدية ما يكفي لتهدئة الأعصاب وإعداد الإنسان نفسه للنوم»، المكتبة في الليل دراسة حميمة في إمكانات القراءة كتجربة وفعل وشكل ومعنى ورمز، يعكس فيه الكاتب فلسفته الخاصة حول مفهوم «المكتبة» كمكان وشكل وهويّة وسُلطة وخيال. فضلا عن هذين الكتابين له كتاب آخر وهو “يوميات قراءة” بدأت فكرة هذا الكتاب من تأمّلات قارئ شغوف في عالم القراءة، إذ قبل بلوغ مانغويل الثالثة والخمسين، قرر أن يعيد قراءة بعض كتبه القديمة المفضلة يقول: “وقد دهشت أن ألاحظ كيف تبدو هذه العوالم المتراكمة المعقدة من الماضي، انعكاسا للفوضى السوداوية التي يحياها عالمنا الحاضر. قد يلقي الضوء على مقطع في رواية فجأة، أو على مقالة في صحيفة يومية، أو مشهد معين يمكنه أن يعيد حادثة شبه منسية، وكلمات قليلة يمكن أن تكون باعثا لتأملات طويلة، لذا قررت أن أسجل مثل هذه الانطباعات”، وكان يعمل على أن يكون الكتاب هجينا من المذكرات الشخصية والكتاب العادي، اختار مانغويل قائمة متنوعة من الكتب، وكان يكتب بدون ترتيب الأفكار التي تمر برأسه، فهو ينتقل عبر صفحات الكتاب من مكان إلى مكان، والمكان المقبل دائما مفاجأة للقارئ. كما لديه مؤلف آخر تحت عنوان (القراءة من أجل القراءة) يستمتع معظمنا بأشياء أخرى إلى جانب القراءة حتى لو كانت القراءة هي طقس يومي لدينا ولا يمكننا الاستغناء عنه؛ لكن الأمر لدى مانغويل يبدو مختلفا، لقد شيد الرجل عالما مختلفا حدوده جدران مكتبته الهائلة، ونحن نقرأ مانغويل ربما يراودنا شعور بأنه لا يقوم بأي فعل آخر غير القراءة. يضفي مانغويل على كل تعامل له مع الكتب والمكتبة مسحة حسية تحمل عواطف مكثفة. 
عندما سُئل مانغويل إذا كان على وعي بأنه ينتج نوعا جديدا من الأدب أو طريقة أخرى في قراءة ونقد الكتب، أجاب: “لم أكن على دراية حينها بأنه كان نوعاً جديداً؛ إن تعريفات النوع الأدبي تتعلق بقيود لا أقبلها”
وعندما سئل مانغويل عن وضع الأدب العربي الآن على خارطة الأدب العالمي، أجاب بأن الأدب العربي له أهمية استثنائية لكن من لا يقرأ العربية لن يمكنه الوصول إلى ما يكفي منه، في إشارة لقلة الترجمات العربية ورداءتها، ومن خلال قراءاته أشاد بأعمال كل من رشيد بوجدرة، ومحمد البساطي وسنان أنطون، واعتبر (محمود درويش) أحد أعظم شعراء القرن العشرين. أين كتّابنا العرب الذين من الممكن أن يؤثروا في الشباب مثل بورخيس، ليخرج لنا كاتباً واحداً على الأقل مثل مانغويل ليبدع نوعاً جديداً من الأدب، يصعب عليّ القول ان الكتّاب العرب هم أحوج للقراءة الحقيقية من العامة.