مستقبلُنا القديم!

ثقافة 2020/01/26
...

محمد الحدّاد
 
 
تظلُّ رغبة الإنسانِ بالارتقاءِ إلى غاياتٍ عُليا مطلباً إنسانياً وحضارياً لا غبارَ عليهِ طالما تواءمت تلك الرغبة مع سموِّ أهدافهِ المشروعة بقطفِ ثمار رحلتهِ الإنسانيةِ الطويلةِ من البحثِ العلمي والفكري والفلسفي الذي لا يمكنُ أنْ يقفَ شيءٌ أمامَ الوصولِ إليهِ. لكنَّ بريقَ السرابِ الذي يكتنف الكثير من النظرياتِ والأفكار الفلسفيةِ المحضة يُغري أحياناً العديد من الكُتّاب والمفكرين بالاقتراب من تلك التخوم والولوجِ "من دونِ حرج" إلى بعضِ مناطقها المُضببةِ انطلاقاً مما أصبحَ اليومَ متداوَلاً بشكلٍ واسعٍ والذي يقضي بوجوبِ أنْ تطرقَ مطارقُ النقدِ وسهامُهُ كلَّ الأبواب. 
خطورة مثل هذا النوعِ من التعاطي الفكري لا يكمنُ في مطارقِ أو سهامِ النقد لذاتها بقدرِ خصوصية ما يُغلّفُ بعض تلك النظرياتِ والأفكارِ من حقائق تبدو ملتبسةً أحياناً لعل من أهمها ما يتعلقُ بالغيبياتِ التي يكادُ يُبنى على الإيمانِ بها الكثير من اليقينياتِ العقائديةِ المُسَلَّمِ بها مما يزيدُ من إمكانيةِ الوقوعِ في خلط ٍمفترضٍ بين أمرٍ ونهي في ذاتِ الوقت: أمرٌ بإعمالِ العقولِ من أجلِ الفهمِ مرةً، ونهيٌّ من السؤالِ رحمةً بهذهِ العقولِ مرةً أخرى "يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياءَ إنْ تُبدَ لكم تسؤْكم"..إحدى أهم تلكَ المسائل هي فكرتا الجَبرية والقدَرية التي تأرجحتْ في مسالكها أقدامُ الخائضين قديماً وحديثاً بين ضفتين متناقضتين أولاهما تُصوّرُ الإنسانَ مُسيَّراً تماماً مجبوراً على أفعالهِ كلها لأنها من عندِ الله، والأخرى لا تؤمنُ بالقدرِ ولا بتناهي علمِ اللهِ السابقِ للحوادثِ لذا تُصوّرهُ مُخيَّراً تماماً مالكاً لزمامِ أمره، فأين مكمنُ الحقيقةِ إذاً بين هذهِ وتلك؟ 
لقد ربطَ القرآنُ في آياتٍ عديدة بين المشيئتين تأكيداً لاستقلاليةِ وفاعليةِ عملِ كلّ منهما دونما تعارضٍ أو إلغاء: "لِمَنْ شاءَ منكمْ أنْ يستقيم وما تشاءونَ إلاّ أنْ يشاءَ اللهُ ربُّ العالمين" مُعطياً بذلك لمشيئةِ الإنسانِ دوراً مستقلا ومؤكداً بشكلٍ تام إلى جانبِ المشيئةِ الإلهيةِ في اختيارِ طريقِ الاستقامةِ في الاعتقادِ والأفعال.
حقيقة الأمر إنَّ الإنسانَ يصنعُ الأمرينِ معاً بدرجةٍ واضحة، ويكادُ يلمسُ ذلكَ بيديهِ كلَّ يوم، فهو يستشعرُ أنهُ "وسيلة" تفعَلُ دونَ أنْ تُقدِّر، لكنهُ يُدركُ أيضاً أنَّ لفعلهِ هذا مشيئة خاصة داخلة في المشيئة الإلهية، سعيُّ الانسان الدؤوب في الحياةِ بحدِّ ذاتهِ عملٌ يدعو للتأملِ لتأكيدِ تعارض ذلك مع مبدأ الجَبرية وأنهُ مُخيّرٌ ذو إرادةٍ تسمحُ لهُ بها قوانينُ الكونِ ونواميسه، مُخيَرٌ في أنْ يُلقي بنفسهِ في أتونِ النار أو أنْ لا يفعل، لكنهُ إنْ اختارَ ذلك فقد أصبحَ مُسيَّراً في أنْ تجري قوانينُ النارِ في إحراقهِ لتنتفي حينئذٍ كل خيريةٍ له..بعملٍ يسيرٍ كهذا يُدركُ الإنسانُ مبدأً قديماً يُصيّرهُ مُخيّراً فيما يستطيعهُ ومُسيَّراً فيما يعجزُ عنهُ أو فيما تتطلبهُ نواميسُ الكونِ التي لن تفتحَ لهُ كلّ أسرارها فيما لو أرادَ تجاوز حدود قوانينها.
 
الخلقُ والكسب
تنحصرُ موجباتُ الأفعالِ بين تيسيرِ اللهِ لها أو تضييقهِ إيّاها لتتركَ للإنسانِ حرية اختيارهِ وإلّا لو عُطّلَ اختيارهُ لأجلِ أن تعملَ المشيئة الإلهية لوحدها لهُدِيَ الناسُ جميعاً دونما ثوابٍ أو عقاب، لكنْ إنْ توجهتْ إرادةُ اللهِ ومشيئتهُ بتوجيهِ قدرةِ الإنسانِ صوبَ ما قدَّرهُ اللهُ لهُ يَسَّرَ إمكانية وقوعه فتُستعمل قدرةُ اللهِ في انجاز أفعالِ عبادهِ وهو ما يُسميهِ العلماءُ بالكسب، فاللهُ خالقٌ لكلِّ الأفعالِ خيرها وشرها والإنسانُ كاسبٌ لها بملءِ اختياره: "وهديناهُ النجدين"..يصطادُ من الأفعالِ التي خلقها اللهُ جميعاً ما يشاء و يَدَعُ منها ما يشاء: "مَنْ شاءَ فليؤمنْ ومَنْ شاءَ فليكفر"! وكأنَّ قضاءَ اللهِ مكانٌ غيبيّ أعلى ينحصرُ الممكِنُ كلهُ في متونهِ وإنما يصلُ الإنسانُ إليهِ بالأسبابِ الممكنة من خلالِ سعيهِ للوصولِ إلى مثابةٍ ما من هذا المكانِ الأعلى، فما وافقَ من تسببها أصبحَ ممكنَ الحدوثِ فعلياً بعد أنْ كان نظرياً من حيث الاستعداد، والأمرُ إجمالاً أنَّ اللهَ يُقدِّرُ والإنسانُ يسعى إلى قدرهِ هذا بحريةِ الاختيار: "وآتيناهُ من كلِّ شيءٍ سَبباً فأتبعَ سَببا". 
 
القَبليةُ والبَعدية
لوهلةٍ أولى فقط تكمنُ صعوبة فهمِ الميكانزمية الخاصة لعملِ ما أسَميهِ القَبلية والبَعدية بين أفعالِ العباد وما خُطَّ في اللوحِ المحفوظ إذا حاولنا دخول منطقتها الغامضة..ستبدو تلكَ الصعوبة شاخصةً للعيانِ لأنَّ العقولَ تكادُ لا تستوعبُ أنَّ سعياً ما سيُغيّرُ شيئاً مما سُطّرَ في لوحٍ محفوظٍ قديم، لكننا بمثالٍ افتراضيٍّ بسيط سنقرِّبُ إلى الإفهام فكرة القَبلية والبَعدية فقط لو تصورنا معاً أنَّ فيلماً ما يُجسدهُ ممثلون يأتمرونَ بأوامر صانعيه، فطالما لم يدخل الفيلم مرحلة مونتاجه النهائي أي طالما كانَ في طورِ التصوير فستبقى إمكانيةُ التعديلِ حذفاً أو تقديماً أو تأخيراً وما إلى ذلك ممكنة جداً وستبرز إرادةُ صانعيهِ بشكلٍ جلي ملموس، لكن بعد انتهاءِ مرحلة المونتاج ستلبِسُ أفعالُ المُمثلين فيهِ لَبوساً قطعياً ليُصبحوا محكومين بما قدَّمتْ أيديهم فيهِ ولن تتوالدَ أو تُفعَّلَ أثناءَ مشاهدتهم لأنفسهم أية إرادةٍ جديدةٍ، فما كان ممكناً قبل ذلك أصبحَ مستحيلاً مهما تكررتْ المشاهدةُ في أزمانٍ متتالية لاحقة لأنها ستغدو حينئذٍ حاضراً آنياً مع أنها من الماضي المُنجَز، اللوحُ المحفوظ أشبه ما يكونُ بالنسخةِ الأصليةِ لفيلم ال "Negative" الممتلئ هذا مُسجَّلٌ فيهِ كلّ شيءٍ من البدايةِ حتى النهاية، مدونةٌ فيهِ أفعالنا جميعها كما سنختارُ أنْ نفعلها في مستقبلنا المغيّبِ عنّا تماماً دونما إملاءٍ ولا استبداديةٍ في الاختيار، لكنَّ صعوبة استيعابِ آليته الخاصة هذهِ تكمنُ في نحوٍ من خداعٍ فكري تمارسهُ علينا عقولنا بوعيٍّ منا مردُّهُ: كيفَ للوحٍ محفوظ أن يوجدَ ويُنجزَ قبل وجودنا أصلاً؟! لكنَّ الحقيقة أنَّ المسألة برُمّتها تخضعُ لحساباتٍ لا تستقيمُ مع حساباتنا المحكومة والمقيدة أساساً بنظامنا الشمسي وما يخضعُ لهُ من قوانين آنية مُصاحبة، وكأنَّ استغراباً كهذا ينتزعُ شيئاً من يقينِ تناهي علمِ اللهِ السابقِ للزمانِ والمكانِ أو الإحاطةِ بما سيختارهُ عبادهُ من
 أفعال.
 
يمحو اللهُ ما يشاء
ثمة التباسٌ حاصلٌ آخر مُلحقٌ أيضا باللوحِ المحفوظ يُظَنُّ من خلالِ إثارتهِ أنهُ ليس هنالك أي محو أو تغيير أو تبديل فيهِ مع أنَّ القرآنَ أثبتَ العكس بآياتٍ كثيرةٍ لعلَّ أوضحها: "يمحو اللهُ ما يشاءُ ويُثبِتْ وعندهُ أمُّ الكتاب"..فثمة أوامرُ يختصُّ بها اللهُ وحدهُ فيُنزلُ قضاءهُ كأمرٍ قطعيٍّ مُلزِمٍ لا ينفعُ إزاءها أفعالُ الناسِ مطلقاً، من ذلك قضاءٌ يمحوهُ اللهُ استجابة لأفعالٍ مخصوصةٍ كصلاةِ الاستسقاءِ لاستنزالِ المطرِ أو الدعاءِ الذي يتصارعُ ويعتلجُ مع القدَرِ كالتِرسِ فأيّهما غلبَ نزل أو كإخراجِ الصدقاتِ بقصدِ زيادةِ الرزقِ أو لدفعِ بلاءٍ نازلٍ وغير ذلك كثير، ومنهُ بابٌ أوسع تكونُ الغلبة فيهِ للأسبابِ الموجبةِ لدفعهِ أو للأسبابِ الموجبةِ لتأكيدِ وقوعهِ كأنْ يكون في علمِ اللهِ أنَّ إنساناً ما سيأخذ بأسبابٍ بعينها لدفعِ قضاءٍ ما لن يأخذَ بها إنسانٌ آخر كالتداوي عند المرض أو الأكل والشرب عند الجوع والعطش وغير ذلك، وقد أفردَ علماءُ الكلام في هذهِ الجزئية المهمة أبواباً واسعة ميّزوا فيها بين "علمِ الله" و"قدرِ الله وقضائه"، والخلاصة أنَّ ثمة محواً للقضاءِ وإثباتاً لهُ سواء شعرنا بذلك أم لا.
إنَّ الإنسانَ لَيُدرِك تماماً إنْ كتبتْ يدهُ كلمة ما فهذا فعلهُ هو، لكنْ لو قَبَضْتَ يدهُ بيدِكَ أنتَ وكتبتَ فلِمَنْ سنُعطي حينئذٍ فعلَ الكتابة؟ بالتأكيد ليدِكَ القابضةِ ذاتِ الإرادة وإنْ أمسَكَتْ يدُهُ هو بالقلمِ لأنهُ كان في الأولى "مُخيَّراً" واضحَ الإرادة وفي الثانيةِ "مجبوراً" فاقدَ الإرادةِ مع أنَّ يدَهُ هي التي خَطَّتْ!
والخلاصة أن كلَّ فعلٍ يصدرُ منا إنما كانَ مُسَطّراً في علمِ الله قبلَ أنْ نكون، وما سنفعلهُ في مستقبلِ أيامنا "فعلناهُ" بعلمهِ كذلك، لأنَّ اللهَ "يعلمُ كلَّ ما كانَ وما سوفَ يكون وكلَّ ما لم يكن لو أمكنَ كيفَ كانَ سيكون، وكلَّ ما كانَ لو أمكنَ أنْ لا يكون كيفَ لا يكون"!
نزولُ القرآنِ نفسهُ يصلحُ أنْ يُساقَ كمَثلٍ جليّ أيضاً، لأنهُ نزلَ بتمامهِ بليلةٍ واحدة من اللوحِ المحفوظ إلى السماءِ الدنيا مع ما سُطِّرت فيهِ من أحداثٍ وأفعالٍ ستقعُ لاحقاً قبلَ أنْ ينزلَ مُنجَّماً في ثلاثةٍ وعشرين عاماً بحسبِ اقتضاءِ أسبابِ نزولهِ، وذاتُ الخداعِ الفكري ستمارسهُ علينا عقولنا لأنَّ الحوادثَ كلّها تحدثُ نسبةً لوجودنا معها نمارسُ فعلنا في اكتسابها لكنها ليستْ حادثة بالنسبةِ إلى اللهِ.
نخلصُ من ذلكَ كلهِ إلى أنَّ إعمالَ العقولِ في ظواهرِ بعضِ النصوصِ وبواطنها دونما تسلّحٍ تامٍ باشتراطاتِ المنهجِ العلمي الرصين المتعلق بهِ ودون الإحاطة التامة بعلوم الشريعة ودراسة مقاصدها سيجعلُ من هذهِ النصوص مادةً لتداولٍ بشريٍّ مُشاع غير مدروسٍ ولا مسؤول وبالتالي الوقوع في مَضنّةِ الالتباسِ تارةً والتناقضِ تارةً أخرى.