التعاطف كاشفاً!

ثقافة 2020/01/26
...

ياسين طه حافظ 
كان درساً من دروس الطفولة مثلما كان موعظة دينية وإحدى الوصايا. وكان من بعد واحدةً من صفات الوجاهة وعلائم الرقي. ذلك هو: التعاطف
العطف على من يستحق أو يستوجب العطف. لكن التعاطف مثلما مع الإنسان في محنة، مع ناس الزقاق الفقراء، وأكثر مع قضايا الوطن، التي هي قضايا مع ناسٍ أكثر عدداً، يمكن أن يتسع فيشملنا أحيانا و يمسّ ما في الحياة.
 فقد تلقينا وصايا بسقي الشجرة اليابسة، بعدم القطع والحرق، برفع الحجر العارض في الطريق لكي لا يؤخر عابراً أو يؤذي، وبمساعدة ناس في حاجة لعوننا. لكنا سمعناها وقرأناها وربما مارسناها وصايا وإفهاماً بما يجب. لم نكن نعرف وحتى وقت قريب بأنها أساساً إنقاذ لإنسانيتنا من العزلة، بأنها تواصل روحي، بأنها بصورة غير مباشرة، اجتذاب عطف لأرواحنا عندما نكون في الموقف نفسه. 
مشاغل المدينة الحديثة وازدحام نهاراتنا ونفوسنا بمشاكل العيش والمرور والأوبئة والسياسة وتزاحم الموضوعات، جعلنا نقصر الاهتمام على خلاصنا الفردي. على متعتنا أو بالعمل على سلامة الوصول. بقيت لنا أحياناً متفرقات نجد بها زهواً أو تفضلاً أو إشعاراً لأنفسنا ولغيرنا بأننا لا نزال أحياناً الأفضل. نمنح صدقةً أو نساعد أحداً في رفع صندوق من الأرض أو نأخذ بيد عجوز يعبر الشارع. الوقوف في الباص أو في المترو والتضحية بمقعدنا بعض من ذلك التفضل أو الشعور بالامتياز الأخلاقي أو التعاطف. 
ما يربك، يستوجب إعادة الحساب والرأي، هو لماذا لا نتعاطف مع مجذوم أو مريض بالإيدز أو حتى مصاب بالانفلونزا يرشح محمراً؟ الجواب لأننا نتجنبه، نخشى العدوى أو نشمئز. الكلمة الأخيرة "نشمئز" فاضحة! هي "إعدام" تام لكل بقايا التعاطف وهي كشف لحقيقة عواطفنا الأُخرى. 
على أيّة حال حسناً نحتفظ حتى الآن ببعض منها ولكن مؤسفٌ فاجعٌ أننا نخسر كل إنسانيتنا في حالات الاشمئزاز والنفور، بل الكراهة والتعبير عنها بأوجهنا أو ابتعادنا، هي صورةٌ من صور العقاب! 
حتى الطبيب أو المعالج الصحي تسقط مهنيته في أحوال، ذلك لأن إنسانيته مثلومة، افتقدت بعضاً من أخلاقياتها، الأخلاقيات التي أورثتها التربية والوصايا، حتى هؤلاء يتوقف عندهم فعل التعاطف ويتمنون لو يعالجونه من دون أن يروه. قد يتطور هذا في أحوال مرضية الى أنهم يتمنون موته علاجاً أخيراً.. ماذا عن المقابل وعذابه الشخصي ومعاناته المدمرة وابتلائه ؟ 
هنا السؤال أو هنا الامتحان. حسناً لسنا جميعاً معرضون لامتحان مثل هذا. وإلّا لكانت فضائح الفشل كثيرة ومخزية. 
مرةً فتحت باب الدار صدفة لأرى الشارع، ربما ضجراً من الداخل، رأيت رجلاً أعرفه واقفاً في الباب لا يتجرأ يطرقه. رحبت به، سألته عن حاجته حين أدركت بأنه محتاج، لا أخفيكم، بأن ترحابي تراجع. مع هذا الإدراك انخفضت درجته، صار بارداً قليلاً. هو لم يفصح تماما ولكن قال: "والله، لا أستطيع، لا شيء. أردت السلام عليكم". 
فضيحتي، أنا، كانت حين لم ألحّ عليه. لم أسأله أن كان محتاجاً أو ...، تغاضيت وبقيت مع "أردت السلام عليكم" لأنها أعاقت ذكره لحاجته وصدت عني الاعتذار. لكنها ما صدت الفشل في الاختبار! 
أسأل أحياناً: هل نحن إنسانيون حقاً أم أننا تلقينا دروساً في الإنسانية نحاول تأكيد أننا تعلمناها؟ في التطبيق نواجه، أو لا نتحمل، خسارتها. هي ليست جميلة كما كانت وصايا. فهل نحن بحاجة الى مراجعة والى إصلاح عملي لها لتكون فاعلة دائما؟ لتكون حقيقية 
أكثر؟ 
أظن هذا هو ما يجري في العصر: دور للعجزة، إصلاحيات، مشاف عامة، صندوق صدقات، توزيع معونات ... ، لكننا، وأعتذر عن إفزاعكم، نحاول بهذه ستر بؤسنا الفردي، فشلنا الأخلاقي أفراداً.  نحن لا نفعل ما هو مهم في هذا. تعاطفنا الشخصي، تماسنا الروحي مع ألمه، مع عوزه، مع عذابه، مع خجله، مع الشعور القاسي والموجع بدونيته، نحن لا نفعل هذا. نرمي له قطعاً من نقودنا الفائضة ونمضي. نحن أيضاً نخدع أنفسنا بأننا ما نزال نحمل أخلاقيات الوصايا، الحس الإنساني النقي والساخن، المشاركة، التعاطف! 
قرأت مرة تحليلاً لفلم عنوانه Blade Runner الشفرة العَجِلة أو السكين المسرعة. هذا الفلم يقول لنا إنّ التعاطف هو ما يجعلنا نميز بين الانسان وصورته المزيفة. هو لا يكثر من القول والأمثلة ولكنه يعرض لنا 
شاهداً.. 
سلحفاة تستلقي على ظهرها لا تستطيع أن تعود الى طبيعتها
تحترق بطنها من الاسفلت وأشعة الشمس الحارة. تحاول جاهدة  
تحريك أقدامها للعودة إلى حالتها الطبيعية ولكنها تفشل.
لا يمكنها أن تنجح من دون مساعدتك ولكنك لا تساعدها.
السؤال الآن: لماذا؟ هذا التحقيق وهذا السؤال وجهه المحقق الى شخص يسمى ليون هو بطل الفلم. هل تعلمون ما هو جواب ليون هذا الذي لم يساعد السلحفاة؟ قام بإطلاق النار على المحقق من أسفل المكتب، ذلك لأن المحقق كشف كل زيفه الإنساني. كشف حقيقته. قضى بذلك السؤال على وجوده الأخلاقي 
الزائف! 
عذراً إذا طرحت عليكم مثل هذه الأسئلة. فأنا أعلم أنها تكشف عزلتكم. وعزلتكم الإنسانية كي لا تمنحوا محبة وهي اليوم، أعني المحبة، مُكلِفة، أنتم بهذا الابتعاد واللاتعاطف تنتمون لأنفسكم وحدها، للأنانية التي لا تريدون الاعتراف 
بها!