نم ياسعدي أخذت حصتك الكاملة من العذاب والنميمة
ثقافة
2020/01/27
+A
-A
الكتاب : سعدي الحلي الحنجرة النازفة
المؤلف : رياض رمزي
الناشر : دار سطور
في مطلع كتاب ( سعدي الحلي الحنجرة النازفة) يورد الباحث رياض رمزي مجموعة مختارة من الرسائل عثر عليها في بيت المطرب العراقي بعد وفاته ، الرسائل كتبت من قبل اشخاص ( رجال ونساء ) يعانون جراح خفية من القسوة والهمجية التي لحقت بهم من المجتمع والسلطة انذاك ( ارامل حرب ، خيبات العلاقات العاطفية ، انكسارات واحباطات ) هولاء الاشخاص بسطاء تغذوا على سماع اغاني مطرب جلبت لهم المسرات والعزاءات .
وشحنات من الالم والوجع والمرارة . تنم عن ذاتية مفرطة ، احد النماذج من الرسائل ، تقول رسمية ارملة زوجة شهيد : (( رسالتي اتمنى ان تصل لابو خالد بعد ما مات زوجي في الحرب ما صرت اسمع اغانيك ، هي تذكرني بيه ، من اسمع اغانيك اتذكر ابو عيالي اللي استشهد على الجبهة ، اسمع الكلام واموت من القهر والحزن))
عالم الآهات
يذكر الباحث ان طبيعة صوت المطرب سعدي الحلي ( حفرته فترة من الحرمان جوا يشبه غروبا كئيبا يطبق على الفضاء كله , تحل في ذهن السامع إشراقة مفاجئة تفتح العواطف فيجيء الغناء الحزين معبرا عن تاريخ هو أشبه بتنور أوجر طوال الوقت، مطرب لم يكن من سعيه تسلية البشر بل صدمهم وزيادة بلواهم عن طريق ترتيل كلمة من حرفين (آه) لا تجدي كتابتها, بل لا بد من سماعها كي تتملك سامعها رعدة فتغدو عميقة الغور فيه، كي يعبروا عما لحق بهم من رزايا بعيدا عن إظهار البكاء الحر الذي ينجم عادة عن ضعف مخجل، عند سماع الآهات ينزاح الأسى فيسكن الرحمن الجسد الممسوس
بالشيطان.
كذلك هو الحال مع مفردات العذاب التي ترتجل بعد الموالات (آه, آخ, أويلاه) كلها تشبه مستحضرات التجميل التي يظل شميمها رابضا في الأنف، كأن يجعلها (الآهات) مثل ورقة نشاف تمتص أحزانه و مصدر سرور وكأنه يسقط منها ترخيص الهموم، بدلا من الظهور كشخص مهزوم وباك، منزوع الحياة غارق في
السقام).
سيرة ذاتية
سعدي الحلي (1922 - 2005)، اسمه الحقيقي هو سعدي جابر حمزة الشمري، الملقب بسعدي الحلي، أبو خالد، ولد في مدينة الحلة في منزل صغير في عكد الكرعيين في محلة المهدية مرحلة الشباب بدأ يتنقل بين الحلة وطويريج كسائق حافلة وكان يلقي الاغاني على مسامع الركاب آنذاك وقد تأثر بما يسمعه من كبار المطربين ( عبدالاميـر طويرجاوي........) فزادت خبرته وتوسعت مداركه في الغناء الفراتي بشكل خاص. في العام 1964. بادر زيد الحلي وكان يعمل في الاذاعة العراقية باكتشاف صوت ريفي جديد اسمه سعدي الحلي، وحاول زيد بلباقته وحبه للوجوه الجديدة ان ينشر هذا الصوت على اوسع نطاق في الاذاعة والتلفزيون من خلال علاقاته الاعلامية
والفنية. أصبح سعدي من أهم الاصوات الريفية في العراق منذ السبعينيات، لحن الفنان الرائد محمد نوشي له ليلة ويوم، وعشك اخضر وقد ذاع صيتهما داخل العراق وخارجه. توفي سعدي الحلي في بغداد يوم 24 نيسان 2005 اثر مرض عضال دام لسنوات طويلة ، ودفن في مقبرة مدينة المدائن في بغداد . وترك ارثا كبيرا من الاغاني ( أحبك مو بيدي، أصيح وألتفت موال، ألقاك كي أشكو موال ، بوسه من وجنتك،الله يجازيك موال،خايف عليك،روحي ياروحي، شكلك يا قلب، شيصبرني،عشقتك طفلا،غالي يابوي،كافي يادنيانا، وين نروح،يادنيا، يمته ألقاك، يا مدلوله , عشك اخضر , ليلة و يوم وغيرها
الكثير).
الذاكرة والمكبوتات
حاولت الذاكرة العراقية الذكورية ان تفرغ مكبوتها الجنسي والديني عبر شخصية المطرب إذ اصبح سعدي الحلي مصدرأ للنكات و الطرائف في مرحلة كانت كل المواضيع مقموعة على العراقيين في المرحلة الصدامية , فضلا عن ذلك تعرض المطرب سعدي الحلي للتشهير الواسع بسبب الغزل الذكوري الذي اتسمت به بعض النصوص الشعرية التي قام بغنائها ، وهو ليس بالامر الجديد في الميدان الشعري إذ اشتهر بهذا الاسلوب كثير من شعراء
العرب.
والسؤال هو من المسؤول عن هذا الأفراط في التشهير و السخرية بحق الفنان سعدي الحلي؟ بدلا من توجيه النكات اللاذعة لشخوص السلطة
وسفالتها.
وكذلك تم انتاج حكايات ونكات على لسان سعدي الحلي ضد السلطة،هذه الحكايات كانت تعبير فطري لأجل استرداد المجتمع مكانته عبر (الحيلة المخيالية) وكان عالم الجنس والغزل الذكوري احدى الادوات في الطعن بذات السلطة . او هي كانت انتاج قسم الدعاية والشائعات في جهاز المخابرات العراقية او اجهزة الامن الاخرى لأجل التنفيس عن حالة الغليان أو لقياس مسارات الاستجابة عند المجتمع
العراقي.
وأيام الحرب العراقية - الايرانية أشيع حينها , بأن سعدي الحلي قد غنى :
دنك يا حلو لا يلوحك القناص.
إمك جابتك وإبتلت بيك الناس
شلك بالقادسـية ودوخت الراس
في حين يوضح رمزي هذه المسالة (بوصفها شكل من اشكال الوباء الذي أصاب شريحة واسعة من الجمهور واسمه وباء سعدي الحلي. ابتذال جعل جمهورا واسعا يندفع للوقوع فريسة هذا الوباء, لا أحد يعرف حجم المصابين به في ذلك الوقت. جمهور غمره استبشار بحمل فيروس ذلك الوباء الذي مس الجميع
تقريبا.
أليس من الجدير بصناع الفكر أن يقوموا بتحليل أسبابه وسرعة انتشاره في تلك الفترة العصيبة من تاريخ البلاد, ليكون لدى المواطن العادي فهم أفضل لما حدث في واقع رسمته حروب وانتهاكات يومية متواصلة وجسيمة لمواطنين أبهظتهم تكاليفها, نكلت بعقولهم التي لم تجد في نفسها القدرة على التحليل ناهيك عن
المقاومة).
الباحث هنا يقول ان العراقيين (لم يعودوا قادرين على معرفة الفرق بين السخرية المرة والمزاح المريح, فانغمسوا في أفعال فيها مستوى عال من قسوة, طيش, غياب الرحمة, غلظة في المشاعر, وقلة أو انعدام مطلق للرقة) فهو يريد من خلال الكتاب (وضع اليد على نوعية العقل الذي أنتج ذلك السلوك، تفكيكه ومعرفة أسبابه, هو فعل نقدي هدفه فهم ما حدث ومعرفة المعايير التي تستند عليها مرجعيات الجمهور
الأخلاقية.
حين نفهم ما حدث في الماضي لمبدع هو ثروة وطنية, سنفهم ما يحدث الآن من سلوك تدميري تجاه ثروات الوطن ، لم يكن النظام من هندس وخطط لذلك الوباء, بل هو من سمح وغض النظر عن انتشاره, لإدخال سرور في مجتمع تحكمه قوانين السأم, ولا يوجد فيه ما يشيع السرور, مما سمح لممارسات لا تحتكم لقوانين أخلاقية تحكم العلاقة بين
الأفراد).
نص شعري لـ موفق محمد
فأندف يا سعدي
إندف قلبك جبل الهمّ
فلا أحد غير صوتك
بعينيه العسليتين ، ورقته التي لا تنضب ،
ويديه الواثقتين ، وصدره الرحيب ، يعيد للأشجار
خـّمرتها ، فتصلّ البلابل يانعة في ثمارها ،
ويسيل الغناء من مناقيرها ، تتألق الغيوم بأقواس قزح
من العمّات والخالات ، وتمطر راقصة بالألوان كلها
وبالأديان كلّها ، وصوتك هو الترجمان الوحيد
الى حيث ينبض القلب ، فتفيض المحبة مبسملة
من صدورهم .. فيرقص في البيدر السنبل