ضِــــفَّــــة نـــهــــر

ثقافة 2020/01/27
...

عمار حميد مهدي
حملتني بعيدا عن ضوضاء المدينة وانتشلتني من محنة الاغتراب المزمنة  لبعض الوقت ، كنت اراها عن بعد مع شعور اللامبالاة ولكن حس الابتعاد عن المعتاد دفعني الى الاقتراب منها ثم الوقوف بجانبها مما منحني شعورا مختلفا تماما ، تلك هي ضفة النهر حيث تنتهي حدود الجريان حينما يرسم النهر أطراف نهاياته بالاتفاق مع الشاطئ الطيني على الجانبين ليصنعا معا عالما مختلفا يُعزف فيه لحن ارتطام الموجة متناغما مع هسيس القصب فتعود الروح الى مهد السكون الذي يتعاظم على وقع هذا اللحن.
يتشاطر الجانبان (النهر والشاطئ) أدوات صنع هذه البقعة الساحرة ، فالشاطئ الطيني قد احتضن أعوادا وأشجارا مالت اغصانها نحو النهر مرسلة اوراقها المتساقطة ليحملها بعيدا على موجاته في انسلالٍ متواصل الى اللانهاية فيما البعض من اوراق الشجر ينتثر على الطين مغطيا آثار اقدام طيورٍ كثيرة كانت تقف امام الشاطئ ، لقد ادركت هذه الطيور قبلي جمال التأمل امام النهر على الضفة عندما كنت اراها من البعيد تقف صامتة امام الأمواج فعلمت انها بذلك تحلّق مرتَّين ،  مرةً في الأجواء بأجنحتها ومرة اخرى بروحها عند وقوفها قبالة الشاطئ.
ثمَّة اطلال قارب مهترئ يرقد فوق الحد الفاصل ما بين النهر وضفته ،مطروح بين هذين الجانبين كلٌّ يترك فيه أثره ، هناك نبتت سيقان الاعشاب على المقدمة المشققة بأثر الهواء والشمس والمغطاة بالطين وراحت الطحالب تنتشر على الخشب العطن  أثرَ الرطوبة المتواصلة على نهايته الغارقة فكان بذلك لوحة من لوحات الضفة واحد عناصر جمالها الأخرى ، نسمات الهواء وانعكاس صورة الغيوم على النهر ، جميعها تشكل ميِّزات مكان يقف حاجزا منيعا امام غول الشوارع المزدحمة وضوضاء المدينة ليوقظ ذاكرة الحنين الى اللحظات الطيبة وتأمل الوجود.
يمرُّ الوقت واترك ضفة النهر مذعناً عائدا نحو متاهات الأسفلت ووحوشها المعدنية بزعيق منبهاتها المتواصل لأتيه فيها بين غابات الأبنية الاسمنتية ، لكن مكان الضفة يترك في القلب صوت العودة اليه مرحباً بي كلما ضاقت النفس وشعرت بالحاجة الى الارتواء من ظمأ الاغتراب.