تداعيات الدفق العاطفي في (ماراثون)

ثقافة 2020/01/27
...

رنا صباح
 
يأخذنا (الدكتور عبد الحسين علوان الدرويش) عبر مجموعته القصصيّة (مارثون) الصادرة عن دار الشؤون الثقافية عام 2015 نحو عالم من الاسترجاعات والمناجاة المفعمة بالمشاعر الضاجة بانفراديتها وكأنّها تخص ذاتا بعينها ولا يمكن لها ان تتوزع أو تتكرر في ذوات عدة، ذلك انها اشبه بنزيف من العواطف اللاهبة فعند الولوج للقصة الاولى يتشرب المتلقي اكسيراً من المعاناة والمشقة والألم، لكنه اكسير يشعره  بمنتهى المتعة والسعادة ففي (الثلاثاء المقدس) هناك عناقيد للعاطفة والوجدان تمنح مناخ القص اجواء تشعر القارئ ان هناك نبعا من الاحاسيس الجميلة يتدفق من عمق الذات وهو يصرخ برفضه لتابوهات بلادة القناعات الراسخة في الاذهان وهي لا تتقبل قصة حب نشأ بين قلبين لعائق بسيط تمثل بفارق السن بعدما يشعر رجل في خريف عمره بحبه لفتاة تصغره سناً وهي التي ظهرت في حياته بعد مرور انتظارات وعذابات وسنين من الركض اللاهث في ماراثون الوجود بحثاً عن رضا النفس في حبٍ جاء في اوانٍ متأخرة ليحيلنا القاص الى ماراثون عاطفي تمتزج فيه مشاعر غزيرة ماطرة بعبارات قد تتكرر احياناً في ملفوظاتها او في معانيها، وكأنّ ذلك الحبيب كان غير مطمئن من فكرة وصول عشقه للقارئ، فكانت فقرات النص لا تخلو من عبارات الوله والغرام، أرى هنا بأنّ المبالغة والالحاح قد خدم الفكرة احياناً وارهقها احياناً اخرى.  
ثمة رابط خفي ما بين القصة الاولى والقصة الاخيرة لذلك رأيت ان ابدأ بقراءة القصة الاخيرة في المجموعة الموسومة (الا.. معي) نتعرف من خلالها على ذلك الحب الخريفي بكل ابعاده وصولاً الى منتهاه ما بين البطل وحبيبته، اعتمد فيها القاص اساليب مختزلة ومقتصدة وهذا ما خدم المضمون وكأنّه يريد سن لغة اخرى غير الكلام المألوف لطرح سؤاله المرير لماذا رحلت؟ لماذا انتهى ذلك الحب المتقد بكل سعاداته، وثمة تأكيد على قيمة استباق موضوعات او تجوالات حياتية تخدم تشخيص النهايات فهو يراها في بيروت حين يسافر وحين يأكل او يتجول في الشوارع فتتسارع ردود فعله على ايقاع انفعالات يحدثها فيه تلقيه للصورة والحدث ليكون هناك تفاعل جدلي بين مشاعره والطبيعة والمجتمع من حوله فنرى حاله الوجداني يتماهى مع المحيط اذ  انه صام عن الحياة بما فيها ولا يرغب سوى بالاجابة عن سؤاله المتضمن منطقياً الرد بما نلمحه من صرخات تأتي من اعماق الروح «فلم أجد أحلى منك، ولا ألذ من طعم شفاه مثل شفتيك، ولا انثى تغريني إلّا أنتِ، عجيب أمركِ، كيف انت هناك، وانا اراك هنا..» هو يعاني ابتعادها عنه وذلك الابتعاد يتردد في نفسه كطنين الاجراس يعلن له باستمرار قسوة كلمات حارقة تضرم في روحه وحدة موجعة قدم من خلالها القاص صورة الحبيبة بوصفها بنية ثقافية تخدم منطق السرد في تركيزه على عالم الغرائز برمزية محببة، الامر الذي مثل في سياق القصة طبقة سردية توخى القاص من خلالها البحث والحفر فيها بعمق والكشف عن ذلك التواصل الروحي واستيهاماته المادية داخل القص.
وهذه الاستيهامات نجدها شاخصة في «قصة حب خريفية» اذ احالنا فيها القاص عبر مخاوف ذلك المحب وتردده بعدما فك قيوده واستباح الممنوع وفتح ابواب جنته بيديه وكأنّه هنا بمناجاته الذاتية تلك ولغته الشفافة قد اجهد نفسه وموضوعه حتى اوصله لابتهالات صوفيَّة فيها الدعاء واللغة المشفوعة بألفاظ مأخوذة من القرآن لتعلن خوفه الأبدي امام تابوهات النفس وما تريد، وما بين الأوامر والنواهي الإلهيّة ليتكون الصراع السايكولوجي الذي تحسمه هي بابتعادها عنه في النهاية «انت الطيبات والحور العين والترائب الاكعاب» «عناقيدها متدلية ثمارها دانية، منتظرة بشوق عارم موسم القطاف».
تستحوذ قصة الحب الخريفية تلك على المجموعة القصصية بأجوائها ونفحاتها الرومانسيّة، ففي قصة (شمعة واحدة تكفي) نجد ذلك المحب يجعل من محبوبته ورؤيتها مقترنة برؤيا الهلال الذي يتعيّن على وجوده حلول العيد فهو صائم الى ان يراها ثالث ايام العيد كي يحين الاحتفال لديه.