المثقف والسياق الاجتماعي

ثقافة 2020/01/27
...

نصير فليح
لا ينفصل مفهوم «المثقف» عن السياق التاريخي والاجتماعي الذي يندرج فيه، ولهذا نجد معناه يتشكّل ويتغيّر. وفي واقعنا المباشر نلاحظ ان كلمة أو مفهوم «المثقف» يطلق عادة على متداولي الكتب أو قرّائها وكذلك على المتعلمين من أصحاب الشهادات وما شابه. مع اننا نعرف أن ليس كل متداولي الكتب قراء مثابرين فعلاً، وليس كل أصحاب الشهادات منتجين في نطاق الفعل الثقافي (أي انتاج واستهلاك وإعادة انتاج المعرفة) حتى في اختصاص دراستهم. ولهذا كثيرا ما يظهر الاضطراب في هذا التوصيف. 
ومما يزيد الأمور تشوشاً هو عدم فرز «الثقافة» و»المثقف» عن «التحضر». فقد يكون متداول الكتب أو المتحدث عنها أو صاحب الشهادة «نمطياً» من الناحية الاجتماعية والسلوكية، كأن يكون بدوي الطباع أو عشائري النوازع والممارسات كما يحدث كثيرا. فضلا عن ذلك، اذا لم نميّز جيدا بين هؤلاء ومقدار صلتهم بالفعل التنويري الحق، أي الفعل المتصل بالعقل والعقلانية أساساً، ومدى التشنّج والتصلّب والممارسات اللاتنويرية واللاعقلانية في قبول الاختلاف والمختلف، اتضح حجم الهوة بشكل اكبر. وكل هذا له جذوره الاجتماعية المترسّخة في طبيعة المجتمع ونوازعه العشائرية والبدوية التي يرى الوردي في عنصر «التغالب» البدوي جذراً أساسياً لها. 
وتجدر الاشارة اننا في ما تقدم اخترنا تعريفاً موجزاً واحداً من التعاريف العديدة التي يمكن استخدامها «للثقافة» (وهو: انتاج واستهلاك وإعادة انتاج المعرفة)، فهو مفهوم له عشرات وربما مئات التعاريف المتباينة، التي تتراوح من نطاقات واسعة جدا مثل اعتبار الثقافة كل ما يميز المجتمع البشري عن مجتمعات الحيوانات الاخرى، الى نطاقات شديدة الضيق مثل تلك التي تقرنها بالنشاط الادبي والابداعي والفني والانتاج والاستهلاك في هذا الحقل.
أما عن ارتباط مفهوم المثقف بالسياق الاجتماعي والتاريخي فهو ما يتضح اكثر إذا ما ألقينا نظرة سريعة على جذور الموضوع.
 
أصل المفاهيم
إذا عدنا الى المعاجم العربية سنجد ان معنى «الثقافة» و»المثقف» كما يتم تداوله اليوم غائب عنها. فالمعاجم تشير كما هو معروف الى المصدر الثلاثي (ث.ق.ف) واشتقاقاته والذي يعني التهذيب والشحذ وما الى ذلك. ويشير الجابري بدقة الى ان «المتكلمين» في الموروث العربي الاسلامي هم الأقرب الى معنى المثقف المعاصر. ذلك انهم عندما يتناولون الأمور العامة يميلون الى تقديم رأي فيها، وهذا ما يقلّ بوجه الاجمال لدى الفقهاء والمحدثين.
وكما يقول الجابري عن «المتكلم» في كتابه (المثقفون في الحضارة العربية، ص37): «وبعبارة أخرى أنْ يمارس العقيدة لا كمجرد اعتقاد، بل أيضاً كرأي وتعبير عن هذا الرأي: إنه بذلك يتحول إلى متكلم وصاحب مقالة، وأكثر من ذلك يتجه بكلامه ومقالته إلى الجمهور (أي المستمع) ويتخذ من الأُطُر الاجتماعية التي تؤطر هذا الجمهور موضوعاً لكلامه».
ورغم تعذر استبعاد ابداء الرأي في المجالات الأخرى أيضاً (إذ يتعذر تقديم خطاب خال من «منظور ما» وهو ما يرتبط من ثمّ «برأي ما»)، فإنّ المساحة الفردية التأويلية لخطاب المتكلمين تتيح لهم مرونة أكبر، وتجعلهم أقرب الى الفلسفة مقارنة بالفقهاء والمتحدثين.
أما في الموروث الغربي، فإنّ كلمتي الثقافة culture والمثقف intellectual لهما جذران لغويان مختلفان، على خلاف اللغة العربية. كما ان تحديد ظهور المفهوم الحديث للمثقف الغربي ليس سهلاً أيضاً، فالبعض يرده الى مرحلة التنوير والموسوعيين الفرنسيين، وآخرون يردونه الى ما قبل ذلك، وبعض يرده الى مرحلة الهيغليين الشبان في بدايات القرن التاسع 
عشر. 
مع ملاحظة ان المعنى الحالي لكلمة المثقف في العالم الغربي ينبع من مصدرين رئيسيين هما كلمتا intellectual و(انتجلنسيا) intelligentsia، والأخيرة شاعت في روسيا بوجه الخصوص في القرن التاسع عشر، كما يبيّن جيرار ليكلرك في كتابه (سوسيولوجيا المثقفين).
 
عصر النهضة والاصلاح
النماذج الأولى في عالمنا العربي لمفهوم المثقف بعد مراحل السكون، اقترنت بما يمكن تسميته عصر النهضة أو التنوير أو الاصلاح، من أمثال رفاعة الطهطاوي وجمال الدين الافغاني ومحمد عبده. وقد ظهر هؤلاء أيضاً من حضن الموروث الديني. لكنَّ ثمة فارقا كبيرا بين ظهور شريحة المثقفين في العالم المسيحي الغربي عن سواه، ذلك ان ظهور شريحة «المثقفين» في ذلك العالم كانت نتيجة تطورات داخلية تدريجية متنامية، حولت المجتمع بعمق في أوربا قبل قرون. بينما ظهور المثقفين في الحضارات والثقافات الأخرى كالآسيوية والعربية الاسلامية، كان نتيجة التماس العنفي أو السلمي مع أوربا، أي بصيغة استجابة أو رد فعل على التحدي الحضاري الغربي.
 
عوامل الركود والمراوحة
قدرة المثقف في واقعنا الحالي على انتاج واستهلاك واعادة انتاج 
المعرفة مقارنة بثقافات ومجتمعات العالم، ومدى التأخر في هذا المضمار، موضوع يرتبط بمستوى ثقافتنا بالطبع، ذلك ان ثقافتنا اصلا على خارطة العالم الثقافية هي من اكثرها تأخرا. 
أما من الجانب السوسيولوجي، فإنّ البنى الاجتماعية-الثقافية التي لما تزل فاعلة تعيد انتاج الممارسات نفسها، بدرجة أو أخرى. فقبل قرن من الزمان، مثلاً، كان القادر على القراءة أو الكتابة هو «المثقف» بوجه عام، ولا يزال الكثير من مظاهر ايام «الكتاتيب» تلك يعيد انتاج نفسه في واقعنا الاجتماعي، رغم التغيرات الكبرى التي حدثت. ذلك ان البنى العشائرية، والبدوية، والانتماءات الضيقة على حساب مجتمعات القانون والمواطنة، ما تزال فاعلة في معظم انحاء عالمنا العربي. ومن الطبيعي من ثمّ أن تعيد السمات السلوكية والسيكولوجية والاجتماعية في وعي المثقف وممارساته انتاج نفسها ما دامت مولداتها فاعلة ومؤثرة. مما يبيّن مدى ارتباط مفهوم «المثقف» والمعنى العيني الملموس له، معرفيا وسوسيولوجيا، بالسياق الاجتماعي-التاريخي وبناه التوليدية.