في عام 1990م أصدر الكاتب المصري غالي شكري كتاباً يحمل عنوان: «أقواس الهزيمة: وعي النخبة بين المعرفة والسلطة» وقد رام المؤلف من كتابه أن يكون منطلقاً لمعرفة أسباب فشل فكر النخبة في تحقيق آمال الإنسان العادي، والارتقاء بالمجتمع إلى مستوى أهداف النهضة المعلنة. في سياق هذا القصد كرّر الباحث نقده الشديد للمثقفين من زاويتين:
الأولى: طبيعة علاقاتهم بالسلطة؛ هذه العلاقة التي تميل للممالأة والانحياز ضدّ الجمهور.
الثانية: طبيعة الفكر الذي يتبنونه وميلهم للتوفيق كما يقول.
كتاب غالي شكري هذا لم يكن الوحيد فقد سبقته وتلته عشرات الكتب ومئات المراجعات، ومن ثمّ فانه لم يضف شيئاً جديداً عدا كونه شهادة تضاف إلى الشهادات المتكاثرة عن أزمة النخبة، وبالتالي لم يكن له صدى في التهيئة لمسار آخر يدعو إلى تفاعل الجهد الفكري للمثقف مع قضايا الواقع. وما يعاني منه الإنسان على الأرض.ربما تعود بعض أهم أسباب إخفاق هذا النقد أنه أعاد من حيث الأدوات واللغة النقدية المستخدمة؛ إنتاج أزمة النخبة في أحد وجوهها بينما هو يروم نقدها. بيد أن السبب الأهمّ من ذلك يعود فيما نرى، إلى بواعث فكرية تعبّر عن نفسها في سطحية النقد، وعجز الناقد عن التفكير بطريقة مختلفة؛ عجزه في أن ينطلق من رؤية جامعة تنظر إلى أزمة النخبة في إطار أزمة أعم، يعبّر عنها مشروع الحداثة الذي شاع منذ عقود، واعتبرت النخبة التبشير به والترويج له مهمة حياتية بالنسبة إليها.
فإلى مشروع الحداثة تعود أزمة النخبة، ومكمن الأزمة في مشروع الحداثة الذي ساد أصقاع العالم العربي والإسلامي، لا يتمثّل في الحداثة نفسها، في كونها معنى يعبّر عن وقائع وعلاقات شاملة ليس في الفكر وحده، إنما في الوجود الاجتماعي برمّته، في ما هو عليه من مكونات ثقافية وتعليمية وسياسية واقتصادية، فردية واجتماعية وغير ذلك.
ليست المشكلة إذن في الحداثة بحدّ ذاتها، إذ لابدّ لكل مجتمع لكي يوفر لنفسه مقومات الاستمرار ويعيش حياته في العصر وليس في الماضي أو التأريخ؛ من أن يتحدّث بكله ويواكب تطورات عصره. إنما المشكلة في ما روّجت له النخبة من مشروع حداثي، قام على أساس تقليد الحداثة الغربية واستنساخها بمقوماتها العقلية والثقافية، وبعلاقاتها الاجتماعية وشروطها في السياسة والاجتماع والاقتصاد.
قد يمكن لأمة أو لمجتمع أن يقلّد ببعض الأشياء، لكن من المستحيل أن يستنسخ مشروعاً للحداثة ولد في بيئة أنتجته، على مقاساتها ووفقاً لاحتياجاتها. اقتباس الحداثة الغربية وإعادة تفصيلها على مجتمعاتنا مرة واحدة وعلى نحوٍ مطلق وكلّي، فضلاً عما يحكيه من تقليد وعجز عن الإبداع، فهو اقتباس من المستحيل أن يثمر تقدماً في واقعنا مهما بولغ في توفير ما يقال من مناخات التَبْيئةِ وتهيئة شروط استنباته. لا يعود مبعث الاستحالة كما تروّج بعض الأقلام، إلى جبرية التخلف في واقعنا وسرمدية الاستبداد الشرقي، ولا يكمن السبب في عقل إنساننا وطبيعة تكوينه النفسي والشعوري، بحيث تكون المهمة التي تمهّد للحداثة ماثلة كما يذهب بعض النقاد، بنقد العقل وتدمير بنيته الموروثة التي عاش بطاقتها خلال قرون مديدة، إنما المسألة تعود ببساطة إلى أنّ لكلّ مجتمع حداثته؛ أيّ شروطه للتقدم وخصوصية علاقاته التي تتصل من دون أن تنفصل بعقيدته وأفكاره وما يؤمن به، وبتركيبه الإدراكي والشعوري، وموروثه الثقافي والعقلي والنفسي، وأخيراً بمزاجه وذوقه وقيمه وإمكاناته.