تعالي المثقف!

الصفحة الاخيرة 2020/01/29
...

 جواد علي كسّار
خلالَ المائة سنة الأخيرة انطلقت كتابات كثيرة عن المثقف ودوره في التغيير، وطبيعة العلاقة بين المثقف ورجل الدين أو الفقيه، وأيهما يمسك بعملية التغيير الاجتماعي، وكذلك موقف المثقف من الدين والمجتمع أو الجماهير ومن السلطة ومن الغرب، ومقدار ما يتمتع به من أصالة تعبّر عن انتماء الشعب ودينه وثقافته، وما يتوفر عليه من مواكبة للعصر تحجز له موقعاً على خطّ الحداثة.
منذ شبلي شميل وانطوان فرح وطه حسين ولطفي السيد بلوغاً إلى عبد الله العروي وهشام شرابي وأدونيس والبرت حوراني وهادي العلوي وحسن حنفي  وجورج طرابيشي ومحمد عابد الجابري وفؤاد زكريا وطيّب تيزيني وعبد الإله بلقزيز وعلي حرب وعشرات غيرهم، تقلّب المثقف والنخبة المثقفة عامّة بين طيف من التصنيفات 
المتعدّدة.
سجّل المفكر الحضاري مالك بن نبي في مذكّراته انطباعاته أوائل القرن العشرين عن المثقف في ملاحظات أقرب إلى روح الحالة الجزائرية ومرحلة الاستعمار المباشر، إذ حمل على المثقف وأبدى تشاؤمه من دوره، بل لم يتورع من أن يصفه بـ«الخيانة» تماماً كما فعل بعد حوالي نصف قرن من ذلك جلال آل أحمد في إيران. مثلاً ذهب مالك في تلك الانطباعات إلى نقد استلاب المثقف وعقدته إزاء الشرق والغرب معاً، إذ هو أمام «حالة مرضية تعتري غالبية حاملي الثقافة عندنا، فإن كانت ثقافتهم تقليدية فمثلهم الأعلى في الشرق، وإن كانت عصرية فمثلهم في فرنسا».
يعزو ابن نبي حالة التقليد هذه إلى فقدان الحضارة: «كلّ مجتمع فقد حضارته يفقد بذلك كلّ أصالة في التفكير أو في السلوك أمام أفكار الآخرين». نعت مالك المثقف صراحةً بالخيانة: «إن النخبة المثقفة ولجت بكلّ وضوح طريق الخيانة».
يرسم ابن نبي صورة للمثقف في مذكراته تميل به إلى حالة نفسية تدفعه للتعالي على المهام العملية التي لا تقترن بالظهور.
ما دعاني إلى تركيز الضوء على هذا الجانب في مذكرات مالك، هو شيء من عبث «المثقف» صار بادياً في كتابات ما بعد السقوط. فمع التفجّر الهائل في وسائل الاتصال داخل العراق واحتشاد عدد كبير من الصحف والمجلات، بالإضافة إلى الفضائيات ومحطات الإذاعة، راجت لدى البعض صيغة من الكتابات والأحاديث تستعمل ألفاظ الثقافة، لكن من دون أن تنتج الثقافة، فأنت تقرأ المقال من دون أن تصل في نهايته إلى حصيلة مثمرة أو مادة 
نافعة. 
أصحاب هذا الاتجاه يعنون بالألفاظ والصيغ المنمقة أكثر من عنايتهم بالأفكار والمعلومات والرؤى، لذلك لا تقدم كتاباتهم شيئاً للقارئ، ولا تُعطي بلاغاتهم الخطابية نفعاً للسامع. وهذا برأيي أحد أسباب عدم تميّز هذا النمط من الكتّاب والمتحدّثين، خارج العراق وفي الفضاءات الجادّة للثقافة والفكر
 والمعرفة.