{الصورة الثالثة} رواية أديب مأزوم عاش شبابه الغض في الحرب وخرج منها فاقدا لأسباب الحياة الطيبة، فلا عمل له ولا بيت يأويه وربما لا أسرة كبيرة تضمّه ولا زوج، وهنا كان عليه أن يواجه الحياة بفقرها المادي والمعنوي، ترى ما مصير محسن الذي جاوز الشباب وهو يعاني قسوة الرغبة التي لم يجد لها إشباعا حتى الآن
وليس هو بالمستطيع تكوين أسرة في واقعه الأليم؟ فيدفعه لاشعوره للبحث عن امرأة– أية امرأة- لعله يجد ما يشبع تلك الرغبة فنراه يتجول في الأسواق حيث الباعة والمشترون والنساء كثيرات وفعلا تحقق له ما أراد وتعرّف على سلوى وكانت هي ذلك السلوان –الحزن-، إذ فقد زوجها رجولته في الحرب أيضا وقد أتت الحرب عليه وراح ضحية لها، وراحت سلوى أيضا تبحث في لاشعورها عن وسيلة لإشباع رغبتها المعطلة منذ عشر سنوات، وقد وجدت سلوتها مع محسن. “في البدء كانت رغبتك أقوى وتلح عليّ بهمس شبق أن أذهب إليها. حتى لو كان لمجرد النظر إلى مفاتنها. أكثر من عشر سنوات وأنت تقرب صوراً إلى أحضانك في المواضع قبل اشتداد القصف لتنام بلا تفكير”. (ص 17).
وأول ما لفتنا هو ذلك الإهداء “إلى أبي علمني أن الوطن أن تعيش ثم مات (ص5). وهنا يكون الأب معادلا للوطن وحب الحياة والحقيقة الوحيدة التي نراها يوميا وهي الموت وقد مات الأب وليس أمام الوطن إلّا الحياة، وظل الأب الميت حاضرا طوال الرواية إما في صورة تذكّر محسن له وذكر نصائحه، أتذكّر قول أبي..عندما تريد إهانة رجل.. أرسل له امرأة لعوبا.. وجه أبي بعيد. (ص 16). وكذلك “كان أبي يوصيني ألّا اقترب من المرأة لأنّها وسيلة لهلاك النفس (ص157). وما استحضار الأب سواء بالإهداء من جهة المؤلف أو من جهة محسن بطل الرواية إلّا لوجود تماهي بين محسن والمؤلف بحيث يتّكئ المؤلف على جزء من شخصيته كأديب وكاتب قصة فجعل من محسن أديب وكاتب قصة أيضا، والمؤلف يستحضر الأب دوما كتعويض عن فقده المؤثر، ولدى المؤلف أيضا فقدان مبكر للأم التي لا يعي صورتها جعل من حور الأب ضروريا للشعور بالأمان والطمأنينة، ومن جهة أخرى جاء حضور الأب لدى محسن كتقوية وحافز “للأنا الأعلى”، كيما يساعده على الكف عن الإشباع الجنسي خارج حدود العرف والدين بإنهاء علاقته مع سلوى، وكذلك كان حضور الأب في الشخصية الساردة الأخرى إلى جانب محسن ليخاطبه محسن بقوله: أكاد أجزم، أنّك من تحرّض زوج سلوى على أن يحضر بهيكله أمامي، ليطاردني. فكلما حاولت أن أتشاغل عنه بطريقةٍ ما، كأن نقرأ أو نتحاور.. سرعان ما تأتي بذكراه أمامي، لم تكن ذكراه الوحيدة التي تطبق على خناقي بل أن حضوره يشكّل بؤرة لوساوس مهيضة تكبلني عن العودة إلى بيته لكي يلاحقني بعذاباته منذ اللحظة التي شعرت فيها أنني أنتهك حرمة بيته.. ؟(ص 155).
وكانت سلوى مقهورة بدافع الرغبة والشعور بالذنب نتيجة فعل الخيانة الزوجيّة وكانت موزعة العاطفة بين حبّها لزوجها وإمكانية تركه للبحث عن حلّ لأزمتها “لم تكن تدرك بعد الأسباب ((لا أريد مفارقته لأنّه أصيب، أنا أحبه. ولأني أعرف أنني زوجة رجل عسكري.. إذن فالإصابة كانت أهون من الموت، أردت الحفاظ عليه)) ظلت تبكي لا تدري ما به لتبقى وحيدة تعيش مع جسدها وهواجسها بعد ان كانت ترى نفسها محظوظة.. ذاقت طعم الحياة وسط خيبتها في الإنجاب، وكان الصمت قد بدأ ينسج خيوطه ((بقيت صابرة عشر سنوات وهو بعيد عني)) لم تعد الكلمات تنفع، اكتشفت أن روحه معطلة وان جسده تحول إلى خشبة(ص133) .
وتلفتنا دلالة الصورة الثالثة تلك التي قصدها محسن وهي “ترك الرجل ملامحه الجديدة، بين أصابعي، لذلك أردتك يا محسن أن تعين عاطفتي لتتماسك، نصف لوجه ضامر والنصف الآخر منتفخ.. أشكال غريبة في النصف الأول، وجه بعين واحدة مفتوحة، وعين مغلقة بل آثار عين إلتحم الجلد حولها من ثلاث جهات.. جلد العين والأنف والوجنة.. نصف الوجه يشبه نصف وجه الصورتين.. رغم نحافته في الصورة الثالثة.. والنصف الآخر، تبرز منه خطوط عرجاء نزلت من أعلى جبهته حتى أسفل أنفه، لتنزل بوحشية وقد أكلت نصف شفته العليا.. ملتحمة عند حافة الشفتين.. لكأنّه يزم نصف فمه بقوة، لم يكن فرحاً حين التقط الصورة الصغيرة التي تؤخذ للمعاملات الرسمية.. كانت آخر دمعة قد حبسها بل أن يضغط المصور على الزر.. وتبيّن أنّه كان يحرق أنفاسه وهو يعرض وجهه الجديد أمام الملأ، كان وجهه مطرزاً باحمرار وبقايا خيوط عملية جراحية وهي تلحم ما هشمه جرحٌ قالت. قررت أن أجد وسيلةً للمقارنة لتبدأ أسئلتي تتقافز من جديد شاعراً بكسوف في داخلي. اختلست النظر إلى الصورة المعلقة.. كان الشاربان طويلين، أطلقت حسرة أكلت صدري.. رجلاً عنيداً خلق ليكون قوياً.. وليس عامل تنظيف في معمل الإسمنت.. وفي الوجبات المسائية دوماً.. قلت لك.. إنه قد شارك في هروبه بما جرى لزوجه.. إنه المسؤول عن حياة البيت (ص 130–131)، إلى رجل حارب عشر سنوات وخرج من الحرب منبوذا اجتماعيا وفاقدا لرجولته فآثر الابتعاد والعزلة ليترك لزوجته فرصة لاشعورية لكي تشبع رغباتها المكبوحة، وهنا تآمر اللاشعور على إتاحة الفرصة للإشباع الجنسي، فالزوج يهرب بعيدا في عمل ليلي وسلوى تتسكّع في الأسواق لشراء حاجاتها ومحسن يجوب الشوارع والأسواق بحثا عن أي امرأة.
وتنبثق لدى محسن وسلوى لحظة السيطرة التامة على “الهو” والحد من لهاثها لإشباع رغباتها وتقفز “الأنا” لتمارس دورها في التوفيق بين الرغبات والقيم التي تمثلها “الأنا الأعلى” حين قال:- لا أريد، أنا والحرب على زوجك، -لم آت إليك لتعود لي بل جئت لأزور الحضرة زيارتي الأخيرة(ص199). ويرى محسن حلما وفيه الزوج يوجه حديثه لمحسن ويقول “أتركها، اغتسلت وذهبت للضريح واستجاب الله لدعائها (ص202)، وهنا تأكيد على الحلول الدينية والسكينة والراحة التي تقدم حلولا للمعاناة وفي الحلم تأكدت دلالة التآمر اللاشعوري من قِبَل الثلاثة على ما حدث.
وبهذا الختام للرواية ظهر محسن ذلك الرجل النبيل الذي حارب سنوات عديدة تهزه صورة زميله في الحرب –الزوج– وقد أصابته لعنتها، فيفيق أناه الأعلى من غفوته ليرتد منتصرا على “الهو” فيقرر الابتعاد عن سلوى لإحساسه بأنه إنما يخون الزوج الذي كان ضحية الحرب، وهو الأديب المعنى بالأدب وهموم الوطن، لتصبح سلوى وقد عادت أيضا لقوة الإيمان تلتمس فيه الشفاء وقد قوي عندها الأنا الأعلى أيضا ولتنتظر في النهاية حلا لمشكلتها، وها هو الزوج وقد ارتضى منها التوبة على فعلها لإدراكه بدوره فيما أصابها.
وهنا كانت نتيجة الحرب مدمّرة لدى كثير من الضحايا سواء على المستوى النفسي والمادي، ولدى الرجل والمرأة على السواء فكانت هذه الرواية زعقة عالية للتنديد بالحرب والموت معا.