إيقاعُ «قصيدة النثر» داخليّاً

ثقافة 2020/02/01
...

بشير حاجم
 
بالبنيوية الشكلية، حصراً، يمكن البحث عن حركتين متضافرتين للقصيدة: انبناء - انهدام، أداتيّاً - أدائيّاً، لكي يتحقّق تمييز استكشافي ما بين نسقيها: النصي - المتني. هنا تركيز على ثانيهما، أكثر من أولهما، لأن المراد، تنظيريّاً - إنجازيّاً، وصول إلى أهمّ نتيجة: نسقُ المتن، جزءاً من نسق النص، أَبرزُ التجليات المهيمنة على المستويات المتحكّمة “الدلالي، الصوتي، التركيبي” بإيقاع الشعر لـ(قصيدة النثر).
إذ ثمة إيقاعها الداخلي، إرسالاً و استقبالا، أي: ذاك المكوِّن المقوِّم، الأشملُ الأعمّ، الذي يهبها مزاياها الشعرية الخاصة. فهو، ممّا يهب من مزايا كهذه، يعوِّضها عن الموسيقى الخارجية الغائبة. إذ إنه، عادةً، يُحَسّ، أولا، ثم يُدرَكُ، ثانيا، من دون وصف محدد. ذلك لأنه إيقاع متغيّرٌ حسب معطياتها، هذه، متمركزٌ حول: فكرتها، صورتها، لفظتها. لكن تمركزه حولها، هنا، لا يحد من إسهامها في نمو الدلالة، وتولدها، عبْر كلِّ مكوّناتها النصية، حتماً، وليس في جزء منها.
لقد وقع خلطٌ، سهواً؟، ما بين: الوزن - الإيقاع، من جهة أولى، وبين: الموسيقى - الإيقاع، من جهة ثانية، غالبا. إذ تتقرّر، في بعض الدراسات، أسبقية الوزن على الإيقاع: باعتبار الأول نمطا للثاني، ليس صورته، مما يرتب، طبعا، أن يكون الإيقاع خارجيا متحقّقاً بالصوت. ثم يوصف الإيقاع بالانتظام، من دراسات أخرى، ليكون هذا الوصف انحيازا إلى مفهوم محدّد للشعر: إن الإيقاع المنتظم عنصر أساسي من عناصر الشعر، لا غنى عنه، ومن المغالطة التعامل معه كأنه قيد محض. لأن وصف الإيقاع بالانتظام، ليس بغيره هنا، يعكس مفهوماً للشعر متّسماً بمعياريّةٍ صرْف جليّة. فلا غرو أن يجد هذا الواصف أدلته في حركة الكون وتعاقبية الفصول ودورة السنين، وأمثالها، كما يجد واصف آخر هذه الأدلة في انسجام العالم وقواعد الحياة.
إنّ وصفاً للإيقاع الشعري كهذا الآن، استشفافا مما تقدّم هنا، إنما يؤدي، لا محالة، إلى ربط الشعر بالوزن، تماما، أي اعتبار الوزن هو الشكل المميز للشعر. أما هذا الاعتبار، من ذاك الربط، فهو دعوة مستهلكة، غير جديدة، ترجع في أصولها النقدية الحديثة إلى كولردج. إذ رأى، في هذا الخصوص، أن الشعر ناقص معيب، أو يصبح ناقصاً معيباً، دون الوزن. وقد احتج، لإسناد رأيه، بأسباب أربعة: مصدر الوزن “التوازن في العقل”/ أثره “زيادة الحساسية = إثارة الانتباه”/ الغريزة/ الارتباط.
هذه الأسباب الأربعة، مفاداتٍ، توصف باشتراطات ملبية، بلا أدنى شك، لفهم قائم على افتراض موسيقى محددة المصدر في الشعر. يُقصد بها، كذاتِ مصدر محدد، تلك الموسيقى المتحققة بالوزن دون فحص الشعر وفقاً للمستويين: الدلالي - التركيبي. أي المكتفية، لكي تتحقق وزنيا دوناً عن هذا الفحص، بمستوى إيقاعي واحد، فقط، هو المستوى الصوتي.
هنا يُعْلَمُ بأنّ “قصيدة النثر”، تحديدا للشعر الأحدث، تستثمر جوانب صوتية دون أيّ اعتبار للوزن. يأتي هذا الاستثمار على أساس أنّ لكلّ نص من نصوصها، الحقّة!، إيقاعاً خاصّاً تصنعه مهيمنةٌ دلاليّاً أو صوتيّاً أو تركيبيّاً. إذاً يجوز الآن، تواصلاً مع هذا الأساس، أنْ يُعتقد في أنّها: منصوص شعري له إيقاع داخلي، احساسيّاً و ادراكيّاً، ذو مهيمنة واحدة (صانعة) على مستويات ثلاثة “دلالي, صوتي, تركيبي” معاً. هذي المَعْيَوِيّة، الدلالية/ الصوتية/ التركيبية، تعني أن كل مستوى من تلكم المستويات الثلاثة إنّما هو: مؤدٍّ منه ومؤدّى إليه، سواء بسواء، في جلّ نصوص هذه القصيدة.