جدليةّ الإزاحة النابضة بالحياة

ثقافة 2020/02/01
...

د.سميرالخليل
 
تنطوي قصائد ديوان (وأنت تلمعين أصابع الوقت)، الصادرة عن دار لارسا للطباعة- بغداد، 2019 للشاعر "عمران العبيدي" على جدلية الطيّ والبسط في معالجة موضوعات ما عادت خافية على أحد، وهي موضوعات الساعة وقد أنضجتها ثورة الوعي الجديد والحراك الجماهيري الذي يعصف بالشوارع والساحات الكبرى.
وتفترض جدلية الطيّ والبسط حتمية الدمج بين العام والخاص فتبرز سلطة الراهن من إثارة القضايا والمصادرات الأشد حساسية، وتقوم بعملية الجمع والعثرنة طبقاً لمناسيب صعود أو هبوط سخونة الحراك الجماهيري، فيعزز بذلك النص الشعري ويتحدد بجملة شروط ثقافية، ولو اكتفى الشاعر بتوصلاته هذه لما اختلفت قصائده كثيراً في مغزاها الأيديولوجي عن قصائد الشعراء السياسيين، لكنه حاول قدر الإمكان زرع إزاحاته الناجزة لتشكل درئية حداثوية ضد هجوم الأخطاء التقليدية المعروفة، ولهذا غدت جدلية الطي والبسط بديلاً لصورة التأريخ وهو يؤسس لقواعده الجديدة، التأريخ مثلما يكتبه الجيل الجديد من خلال التضحيات الكبيرة التي يقدمها قرباناً على مذبح نصب الحرية- نصب الوطن. لهذا لا يمكن أبداً هدم هذه الجدلية، لأن فعل الهدم- وهذا ليس تجريداً- يعتمد على ضمان ترسيخ الأمية وتكريس الفشل والمراهنة على تهويمات السرديات الكبرى التي انتجتها الملل والنحل على مر التاريخ المأزوم، والتي وظفت بشكل مخيف في أوساط البسطاء والمهمشين لتتحوّل إلى رهاب راديكالي. 
ولا عجب أن يضاعف "العبيدي" هذه الصيغة من الجدلية الإبداعية باستخدام آلية معاكسة تؤكد التراجع غير المحدود الذي تنطوي عليه المضاعفة، ويصور هذا التراجع في هيأة جدلية مستمرة بين الداخل والخارج، الذات والموضوع، فالطي يمثل الذات والداخل، مقابل الطي الذي يمثل الموضوع والخارج، هذه القوى المتعاكسة أو الممتدة في عدم تلازمها وتماسها تعتمد على إمكانية السيطرة غير المحدودة في دفعنا إلى اتجاهات جديدة في التأويل، فسلسلة الأفعال تهتم ببسط الموضوع والنظر إلى الخارج من زاوية رؤية محصنة بالطي. والطي تكتنفه سلسلة أفعال تهتم بالذات والداخل المصمت العزيز على كل بنية لأنه مركزها ومعناها ومضمرها النسقي المحصن بالبسط. وهكذا يتم تقسيم سلسلة الأفعال الفردية- الشعرية إلى ميدانين لا يلتقيان أبداً بالرغم من المشتركات الكثيرة التي تربط بينهما، وأيّة قراءة جادة ومتأنية لقصائد الديوان ينبغي أن تنتبه لمرآوية هذا التأليف المتراكب: يقوم البسط بتسمية الأشياء. سرعان ما يقوم الطي بتحويل التسمية إلى مقصدية ذاتية، ثم يقوم الطي بتحفيز البسط عن طريق خلق الأسماء التي تتفكك في أثناء القراءة، وهكذا يصبح تفسير المعنى حركة مزدوجة تسير من دلالة إلى أخرى، ومن طي إلى آخر، فهي عملية طي النص إلى ذات وداخل ثم بسط هذا النص للإنفتاح على الموضوع والخارج. ولنأخذ نماذج تدلل على هذه الجدلية الفاعلة:  نصوص الطي: (محملاً بحكايا تعطلت عند منتصف الكلام). (ص16). (خرجت تواً/ من المعاني المترددة). (ص31). (الطيبون وحدهم منشغلون برسم لوحاتهم/ لا أحد يمر بها أو يمسح عنها الأتربة). (ص74). (دعني أرسم خارطة احتضاري/ قبل تضخم الغياب). (ص89) نصوص البسط: (رتّل ما شئت/ كل الأشياء ممكنة خارج السياق/ أمهاتنا ترتب النواح/ بعضنا يضعف ضفائر آخر الهزائم/ الماء بلا ساقية/ لنا مدن لا تبرح أماكنها/ أفراحنا جروح/ وأغانينا توأم الأحزان/ ينقصنا الكثير لفك شيفرات وجودنا). (ص27). (الكهنة يتلون علينا الأدعية/ يقرأون التلاوات/ لمشاغلة الفقر/ ويستمتعون بمباهج الحياة). (ص102). 
وتضم الحركة الجدلية المتنامية هذه المعنى بوصفه ارتباطاً شخصياً وجماعياً في آن واحد كما يحدده أصحاب ما بعد الحداثة. والتحديد الاختزالي للمعنى العام كما يحدده نقاد الثقافة بسبب تضميناته السياقية ما بين أخذ ورد، أخذ من السياق ورد إليه، وتعد القراءة توليفة داخلية وأخرى خارجية تحدثان في وقت واحد، أي أن القراءة تغدو عملية مستمرة للتقلص والتوسع، ويصبح التأويل الآحادي الذي يستخدم لإخضاع النص ضحية لعملية نشر المعنى من داخل طياته المتكاثرة، فلا يمكن تحديد معنى النص على أساس قوة دلالته، ولا يمكن تحديده على أساس العدد المحدود لشفرات الخطاب، وكل عملية للطي والبسط تشير إلى صلة أخرى للشفرة يتخللها عدد غير محدود من خيوط الارتباط التي بمقدور القارئ أن يتتبعها إلى خارج النص ويعود بها إلى داخله، فلا يمكن تفسير المعنى النصي على أساس البنية وحدها، بل على أساس المفاعيل الشفافية المستمرة في حراكاتها، فمعنى النص لا يمكن أن يكون سوى تعدد أنظمة ذلك النص وتعالقاتها مع الأنساق التي ساهمت في انتاجه، أي قدرته غير المحدودة على التوليد الدوري للدلالات الحافة وهي تتناوس بين الخرس البنيوي والإزاحة الجدلية النابضة بالحياة. ولنستمع لما قاله الشاعر "العبيدي" في هذا النص: (وجهي الذي مرغته الشمس/ إزداد سمرة/ ربما لم يعد يروق للبعض/ لكني ما زلت أعرف/ من خلاله/ لم يتراءى لي بنسخة ثانية). (ص93).