الإصلاحية والدولة الوطنية

الصفحة الاخيرة 2020/02/01
...

 جواد علي كسّار
يقوم منهج الدعوات الإسلامية التغييرية في أحد أهمّ مرتكزاته، على تقسيم العالم إلى دار الإسلام ودار الكفر، أو فسطاط الإيمان وفسطاط الكفر، أو إلى المسلمين والكفار. يترتب على هذه المقولة، إن وطن المسلم يمتدّ في هذا العالم إلى حيث ما امتدّت عقيدته، لتكون العقيدة هي حدّ الوطن الإسلامي، وليس الجغرافية أو السيادة الوطنية أو أيّ من مقوّمات الدولة الحديثة.
برز هذا المفهوم للوطن واضحاً، في أدبيات كبرى اتجاهات الإسلام الحركي والسياسي خلال القرن الأخير، كالإخوان والتحرير والدعوة. والحقيقة أن هذه الحركات وأمثالها لم تبتكر هذا المفهوم للوطن، وما يترتب عليه من مواطنة عالمية أو ممتدّة خارج نطاق الجغرافيا والسيادة السياسية للدول، بل ورثته من مدرسة الفقه السلطاني في تراث المسلمين؛ هذه المدرسة التي أسّست لنفسها مع مدوّنات بارزة في تأسيسيات هذا الفقه، انطلقت مع الماوردي وابن أبي يعلى والجويني والغزالي صعوداً إلى ابن خلدون. 
لقد كانت هذه المدوّنات معنية بفقه الواقع، تحرّكها تجربة المسلمين التي كانت موجودة على الأرض فعلاً، دون أن تبذل عناية كبيرة لمرتكزات الإسلام نفسه، ومفاهيمه في قصة الوطن والحكم ودار الإسلام ودار الكفر. ببساطة شديدة، لقد انطلقت باكورة هذه المدوّنات لتنظّر لمركزية الحكم العباسي في بغداد، وتنفي شرعية ما سواه، وقد حقّقت نجاحاً باهراً، إذ لم تنجح أي تجربة من تجارب الحكم الكثيرة التي شهدها العالم الإسلامي، في أن تتقمّص لباس الخلافة لقباً، من الموحدين والمرابطين في شمال أفريقيا، والأمويين في الأندلس، إلى الفاطميين في مصر، والحمدانيين في حلب والموصل، ثمّ العثمانيين أنفسهم الذين اكتفوا بلقب «السلطان» مع أن مدّة حكمهم فاقت زمنياً حكم العباسيين، إذ بقي لقب الخلافة حصراً في نطاق مدرسة الفقه السلطاني، للعباسيين والأمويين الذين سبقوهم.
موروثات الفقه السلطاني التي انتقلت بحذافيرها إلى حركات الإسلام الحركي، لا تسمح بالحديث عن دولة محلية تقوم على أساس السيادة السياسية والمواطنة الجغرافية، لأنها لا تزال تعيش داخل موروثات دار الإسلام ودار الكفر، وأن الوطن يمتدّ حيثما امتدّت العقيدة، إلى آخر ما تطفح به أدبيات هذه الحركات تبعاً  لمدوّنات الفقه السلطاني.
المنهج الإصلاحي كما عبّرت عنه مدرسة النجف الأشرف خلال المئة سنة الأخيرة، وتكاثف مع السيد السيستاني الآن؛ هذا المنهج يسمح بسهولة، الحديث عن دولة عصرية وطنية ذات سيادة سياسية، وحدود جغرافية، ودستور وشرعية شعبية، ومواطنة في نطاق هذه الجغرافية التي نعرفها ونعايشها، في دول العالم من حولنا.
يفعل المنهج الإصلاحي ذلك ضمن تكييف كلامي وفقهي، يتمركز أساساً حول مفهوم الولاية، وقضية نظام الحكم، وفيما إذا كان هذا النظام من مدركات العقلاء والتجربة الإنسانية في إدارة الحياة، أو من الله والوحي، ثمّ ما يترتّب على ذلك من حقّ الناس في بناء النظام السياسي الذي يرتضونه.
المهمّ الذي نختم به أن إصلاحية النجف الأشرف، تعطينا فرصة لبناء دولة عصرية، من دون تناقض بين عالمية الإسلام ودولة المواطنة، تقوم على السيادة والمواطنة واستقلال القرار وضرب تدخلات الغرباء، بتكييف كلامي وفقهي برزت عناصره واضحة مع السيد السيستاني، خاصة في خطب الأشهر الأربعة الأخيرة!