محمد جبير
تعدّ القصة القصيرة جدا من الفنون الإبداعية الصعبة، لما تتطلّبه من اشتراطات كتابية لا يمكن أن تتوفر إلّا لدى كُتّاب يسعون إلى الانغمار في هذا الفنّ، وعدّه المشروع الكتابي الخاص الذي يستجيب إلى إيقاع العصر السريع والحادّ، من خلال ومضات دالّة ومختزلة تؤكّد برقية الخطاب السردي ويمكّنهم في الوقت ذاته من توكيد حضورهم الإبداعي في المشهد الثقافي العام، تجسّد هذا الفنّ، بشكل لافت، في منتصف القرن الماضي، وصار يكتبه كُتّاب معرفون أمثال «وليم سارويان وناتالي
ساروت».
وساهمت الترجمة إلى اللغة العربية بنقل تلك التجارب القصصية التي أثارت ذائقة الكُتّاب واهتمامهم، وراحوا يتأمّلون تجربة الكتابة عن الواقع العربي بتلك الطريقة المختزلة الموحية المعبّرة عن مقاطع جانبية من الحياة العامة للإنسان العربي، التي امتازت بالقهر والحرمان، وكذلك كان للوضع السياسي المضطرب في مرحلة الستينات أثره في أن تظهر مثل تلك النصوص على شكل منفرد أو في كتب تضم العديد من القصص القصيرة، إلا أنّ بعض الكُتّاب استهوتهم الكتابة في هذا النمط السردي، وصار مشروعهم الأبداعي الخاص، فكانت كتابات القاصّ الراحل خالد حبيب الروائي أنموذجاً واضحاً وعلامة كتابية في هذا المضمار آنذاك.
وفي مطلع السبعينات كتب حنّون مجيد وإبراهيم أحمد العديد من النصوص القصصية القصيرة جداً، وقد ضُمّت لاحقاً في كتب، وكذلك كتب إلياس الماس محمد وحمدي مخلف الحديثي وآخرون الكثير من تلك الومضات القصصية الحادّة والواخزة، حتى صار هذا الفن في تلك السنوات مؤطّرا بجماليته الفكرية فضلا عن جماليته الفنية.
لم ينقطع الكُتّاب الجدد في السنوات الأخيرة من التواصل مع تلك التجارب القصصية، ورسّخوا هذا الفن من خلال شعرية تلك النصوص ودلالتها الإنسانية العامّة من خلال تعددية التبئير السردي، وهو الأمر الذي نلمسه بصورة جلية من خلال تجارب أنمار رحمة الله، وكريم صبح، وعزيز الشعباني
وآخرين.
فقد أصدر القاص كريم صبح خمسة كتب ضمّت قصصه القصيرة، ولم يفّكر في مغادرة هذا الفنّ إلى فنون أخرى، وكأنه يريد أن يؤكّد إخلاصه لهذا الفن ويجسّد حضوره الإبداعي من خلال هذه التجارب السردية، فإنّه، ومن خلال رصده مجموعَ الحالات المجتمعية المتنوعة، يريد أن يقول لنا بأنه صاحب رسالة يهدف إيصالها إلى المتلقّي بأسرع وقت من دون الدخول في متاهات، تبعده عن
خطاب النصّ.
ففي نصّ «محمول» على سبيل المثال لا الحصر، الذي لا يتجاوز العشرين كلمة، ربعها حروف جرّ، نلمس البعد الإنساني الذي يرمي إليه ذلك النصّ، الذي هو: (بحثوا عن شاهد قبر في طريقهم إلى دفنه، سخرت منهم عجوز، قالت: على مسؤوليتي اكتبوا: وجع محمول على الأكتاف). مالك المقبرة ص47.