عبد الأمير خليل مراد
لم يكن أدب الرسائل فنا جديدا على الثقافة العربية، فقد عرفت هذه الثقافة آليات كتابة الرسائل منذ بواكيرها الأولى، وهي تستعيد حضورها في الحروب والمحن بين الحكام والولاة ومريديهم في المدن والأمصار البعيدة،
ونرى في كتاب (صبح الاعشى) للقشقلندي توثيقات تاريخية لهذه المراسلات، وكذلك في كتاب (العقد الفريد) لابن عبد ربه الأندلسي، وهي تمنحنا صورة واضحة عن الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية آنذاك. وقد اشتهر أدب الرسائل حديثا، حيث استيقظ الأدب العربي الحديث، في مراحله المبكرة، على رسائل الكاتبة مي زيادة مع جبران خليل جبران، ورسائل غادة السمان مع الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني، وهي تقدم صورة تراتبية عن مفاهيم الصراحة والحب والجمال بين الكاتبين دون حذف أو تعديل أو رسائل بدر شاكر السياب التي تبادلها مع أُدباء مصر ولبنان .
تنوع الرسائل
لقد اختلفت الرسائل بمفهومها الحديث عن رسائل التشكل الثقافي الأولى، فهي في الغالب رسائل أدبية تتم بين الأدباء أنفسهم، وتكشف عمّا في أعماقهم من مكاشفات وأسرار، أو أنها رسائل علمية بين الأكاديميين تقتصر على الموجهات العلمية والسياقية التي ينتهجها أهل العلم في استيضاح رأي ما، أو مباركة انجاز علمي جديد، أو رسائل ذاتية أخرى، وأهلية عامة تعرف برسائل الوجد والحنين والأشواق، وهي تقرأ بين الأصدقاء والأقارب .
ويأتي كتاب (99 رسالة بين يدي صباح نوري المرزوك) للباحث د. عبد الرضا عوض، الصادر حديثا عن دار الفرات للثقافة والإعلام، وهو ينبش في تراث الأكاديمي الراحل صباح نوري المرزوك الذي غادرنا إلى الخلود الأبدي عام 2014، وهو يميط اللثام عن رسائله، ومكاتباته الخطية، التي تبادلها مع الأدباء والكتاب والمثقفين في مختلف
البلدان .
وثائق نصية
لقد تحولت هذه المراسلات الى وثائق نصية تبين علاقة المرزوك مع مجايليه وأصدقائه، وهي تؤكد وضوح المواقف ومتانة الصداقة التي تعبر عن ثبات الحب والمودة بين التلميذ وأستاذه، وقدِ اجمعت هذه الرسائل مع الدكتور المرزوك على تنوع مساراته في السلوك والإنجاز، وسمو همه الثقافي، وتواضعه في الإفادة من علاقاته الطيبة مع الأدباء الكرد والتركمان والآشوريين.
كما شملت هذه الرسائل أمكنة عدة، ذات مسافات جغرافية واسعة، ولا سيّما أنّ المروزك كان واحدا من الأدباء الشغوفين بحب السفر والتنقل بين الأمصار بفعل وظيفته الأكاديمية، وقد اتسعت خارطة هذه الأماكن، وهي تتمدد بين الحلة وكركوك وبنغازي واليمن والجزائر وسوريا وتركيا وعمان والقاهرة، حيث نجد العديد من هذه الرسائل قد استرسلها مع الكاتب جبار مكاوي وهو في الجزائر، والكاتب عدنان الطعمه وهو في سوريا، والشاعر سعد جاسم وهو في عمان، وغيرهم.
اشتراطات المرحلة
لقد اعتمد المؤلف على رسائل المرزوك الورقية التي غالبا ما يكون هو البادئ في كتابتها، حيث تأخذ كل واحدة منها بعدا ثقافيا وإنسانيا تعكس اهتمامه بالمشهد الثقافي المحلي والعربي، فهناك استفسارات كثيرة حول صدور رواية أو كتاب معرفي أو مجلة ثقافية أو إقامة أمسية شعرية أو ندوة علمية. ونرى في الرسالة الجوابية التي كتبها الشاعر شكر حاجم الصالحي وهو يقول له: (أخي صباح المرزوك، لحد الآن لم يصدر عدد مجلة الأقلام الخاص بالراحل الدكتور طه حسين وفي حالة صدور أي مطبوع عراقي فيه مادة لكم، فسأقتني منه أكثر من عدد، وبالنسبة لمجلة الإذاعة والتلفزيون فقد صدر آخر عدد بتاريخ 13 آذار 1974، ولم ينشر فيه أي لقاء عن المسرح
البابلي).
إن هذه الرسائل التي بذل المؤلف الدكتور عبد الرضا عوض جهدا استثنائيا في جمعها وتصنيفها وتبويبها، تفصح عن سيرة المرزوك الثقافية والعلمية، وهي تعبر عن تدوينات سيرية صاخبة وتمثل انفتاحه على تجارب الإبداع العراقي، والتزامه بالممكن من اشتراطات ثقافة المرحلة، وحيويته في تلقي هموم مجايليه وأصدقائه، ومنهم كذلك رواد الثقافة الكبار كالمؤرخ عبد الرزاق الحسني وهلال ناجي وحسين علي محفوظ وعلي جواد الطاهر وحارث طه الراوي ومحمد الجاسر، وغيرهم.