إبراهيم سبتي
القصة القصيرة جدا تأخذنا الى مديات واسعة ومنتجة وذات دلالات رمزية عميقة إن أحسن كاتبها إدارتها بحنكة ومهارة وخبرة. فنجد أنها ستقودنا إلى عوالم من البهرجة والبراعة ونحن نبحر بين كلماتها القليلة ولغتها المختزلة وشكلها الجذاب الذي يمور بالمعاني الدالة على حلاوة الأفكار.
ففي مجموعته (السنونو)، للقاص والروائي حنون مجيد، نجد قدرة المتمرس الذي أدرك ماهية الصنعة ففي مجموعته الجديدة الخاصة بالقصة القصيرة جدا، ننطلق معه الى فضاءات متعددة الأوجه والدلالات المانحة للمعنى القريب الذي نبحث عنه. فهو يدير قصصه بحنكة العارف بخفايا وأسرار هذا الفن الممتع الجميل، وبالتالي يرسم لوحاته التي تمثل جوهر المعنى. باعتقادي إن حنون مجيد كان يلعب بشطارة معرفته باللغة التي تترجم الأفكار والرؤى والقصد، فهو يكتب كلمات قليلة بعددها لكنها واسعة المعاني والدلالات وهو ما يحسب له على مجمل نصوصه التي امتدت على نحو إدراكه بأهمية المعنى.
إن هذا الفن المهم هو فن اللغة بامتياز لإنها هي القادرة على التوصيل وفق مفاهيم المعرفة الدلالية وإزاحة اللبس الذي يتشكل أحيانا في بعض النصوص، إلّا أن انثيال اللغة المنسابة بهدوء تفصح عن المكنون لاظهار النص.
«قالت الأمانة للغش: أنت تصطبغ بلوني فتغش الناس، ومن غشنا ليس منا. رد الغش: هذا لكي أعيش، ردت الأمانة: ولكن مرة واحدة وليس مرات، فمن يعش بالحيلة يمت بالفقر، أمَا سمعت؟ قال بلى سمعت وكنت كلما نظرت حولي قلت”مثل قديم“، ولا أدري حتى الآن إن تغير شيء». حوار الأمانة والفشل ص19 .
وحسب معطيات دلالته التي يتطلبها هذا الفن وميله الى الاختزال والتكثيف والمناورة وإزاحة الزائد والمتكلف. في كل قراءة لأي نص من المجموعة، أجدني مكتشفا دالة أخرى وفق معطيات القراءة التراتبية حسب رولان بارت، فتكون لحظة الاكتشاف هي لحظة المرور الى فسحة أخرى من الامتاع وبالتالي هي الدخول الى عوالم القاص الذي ظل متواصلا وبنفس واحد تشي بإمكانية بناء عالم من الأفكار المتعددة في أطر رسمت بعناية وحبكة معرفية واضحة:
«أقسم عليه الشيخ الكبير أن يشارك في الحفل، وسرح لخياله العنان. ولما شارك كانت نتيجة غربة مؤلمة على حصان من خشب. ما كان يفتت حزنه ويغريه في الشيخ أنه، وهما يغادران الحفل، لبث صادقا معه، يده الحارة الى يده الباردة، وثمة حلم يمسح دموع عينيه، إن الشوط لم ينته بعد وإن القادم أفضل». أحلام الشيخ ص32
إن كثيرا من كتاب هذا الفن يمزج بين الشعر والسرد في كتابة نصوصهم ممّا يفقدها خاصية التجنيس وهو أخطر ما يمكن النظر إليه في استقلالية القصة القصيرة جدا وعدم اقترانها بأي فن أو جنس آخر. والتجنيس يأخذ عناصره ومقوماته منذ أن كتبته ناتالي ساروت في كتابها (انفعالات) الذي يعد الشرارة الأولى لانطلاق القصة القصيرة جدا وإدامتها وفق معايير الصنعة والبناء وتأسيس قاعدة جمالية حددت الأطر الفنية والشكل الذي أصبح في ما بعد من الفنون الصعبة التي يحاول بعضهم استسهاله والكتابة فيه على أنه يمكن أن يغطي ضعف الموهبة باعتقادهم متناسين أنه يتطلب ثقافة خاصة ولغة عالية مكثفة ومختزلة، لذا فإنهم ربما يقعون باعتقاد يرونه صحيحا فيكتبون وفق ما تمليه عليهم قراءاتهم التي تكون أشبه بالناقصة. فالكتابة لهذا الفن هي كتابة صنعة وتمكن وموهبة ونصوص القاص والروائي حنون مجيد القصيرة جدا من هذا النوع تحديدا.
فهو يكتب نصوصه مستبصرا الأشياء كما يراها المطابقة لفن القصة القصيرة جدا مثلما تكتب النصوص الواضحة الأخرى، أي إنه يقول فيها حدثا مفهوما من تلك الكلمات القليلة ليحبكها بصياغة فنية لكاتب متمرس ويفهم معنى الكتابة. وعندما نقرأ نصوص (السنونو) نجدها تحوي الصياغات والأشكال المتلازمة لصناعة القصص القصيرة جدا حسب تطور مفهومها المعاصر. أعتقد جازما بأن حيوية النصوص التي كتبها حنون مجيد تشير لفهم واضح إلى عملية الكتابة في هذا النوع بكل تفاصيلها وهو أمر يبوح لنا بأن فن القصة القصيرة جدا يحتاج الى مهارة استثنائية ولغة عميقة تخبرنا بالقصد الكامل الذي لا لبس فيه.
ومنذ (انفعالات) ناتالي ساروت في بداية الثلاثينيات وحتى اليوم شهد هذا الفن الصعب تطورا كبيرا في الذائقة القرائية والنقدية وتطور معهما أسلوب الكتابة الذي ذهب نحو استقلالية هذا الفن حتى نجح في فك العلاقة بينه وبين فن القصة القصيرة حيث يتعمد بعضهم ربطهما معا ويصر على أن القصة القصيرة جدا هي أحد الأبناء الشرعيين للقصة القصيرة ولا يمكن فصلها عنه وهو اعتقاد خاطئ تماما. (السنونو) للقاص حنون مجيد هي نافذة فنية وإطلالة ذكية لهذا الفن الممتع الذي ربما سنشهد تطوره لاحقا أكثر فأكثر على أيدي كتابه الماهرين. السنونو، قصص قصيرة جدا لحنون مجيد صدرت العام 2018 عن دار غراب للنشر في القاهرة.