أخيراً حان موعد فتح حمام المدينة. كنتُ في الفندق أجهز أشيائي، صابونة وكيساً للتنظيف وشامبو ومشطاً. خرجت إلى الشارع أحث الخطى صوب حمام المدينة «العظيم» الذي سأتشرّف بالاستحمام به.. إنّها نكتة سخيفة..!. صار غسل البدن معضلة في هذه البقعة اللعينة. في البدء اعتقدت أنّ الأمر مزحة من صاحب الفندق. حين فتشت عن حمام في فندقه الرث كله لكي أزيل تعب السفر عن بدني، لكنه قال لي إن لا حمام أو مغاسل تعمل لديه بشكل صحيح.
بل لا يوجد أي حمّام في المدينة كلها فيه ماء، سوى واحد عمومي، يُفتح يوماً في الأسبوع للناس، حسب أوامر الحاكم.. إنّه أمرٌ مضحك..؟!.. سألته في وقتها ( ترى لماذا هذا التصرّف الغبي في منع الناس من الاستحمام في منازلهم؟!).. بحلق صاحب الفندق في عينيَّ، وأشار عليّ بخفض صوتي كيلا يسمع أحدهم كلامي، ثم سحبني من ذراعي وهمس في أذني (حاكم المدينة - رعاه الله- مهتم برعاية الناس وجمع صفوفهم.. بعد الجفاف الذي حلَّ بنا صار الماء أغلى من الذهب. لهذا قرر الحاكم توحيد الناس في يوم للاستحمام). حديث صاحب الفندق أضحكني حقيقة، وبالرغم من محاولاته لتوضيح أشياء مهمة لي بوصفي غريباً على الأنحاء، أهمها أن الحاكم مهتم بأمر نظافة الناس، وأن الاستحمام يعتبر طقسا أسبوعيا مقدّسا. إلّا أنّني لم ألاحظ في المدينة غير قذارة الناس وروائحهم العفنة. وحين اعترضت على كلامه قال (الناس يذهبون كلهم إلى الحمام، فالحمام ماؤه وفير وصابونه نظيف طيب العطر. اذهب إليه وأنظر بنفسك ولا يغرك بعض المتخلّفين عن هذا الطقس الاستحمامي الجميل). وما إن انتهى صاحب الفندق من كلامه ورحل، حتى أخذت شهيقاً مريحاً، فقد كانت رائحته أنتن من رائحة مزبلة.
خرجت صوب الحمّام، وعلى الطرقات وعلى جانبيّ يهرول الناس، حاملين على رؤوسهم صرر الملابس والصوابين وليف التنظيف. الأطفال يمسكون بأثواب أمهاتهم المذعورات من فوات الفرصة، الرجال لا يمكن اللحاق بهم، فهم يحركون سيقانهم بهمَّة كبيرة.. حين وصلت إلى باب الحمام العالي، والذي زُيّن بنقوش مختلفة ونشرات ضوئية وصور حاكم المدينة، كان الجمهور الواقف عند البوابة تفوح منه رائحة كريهة. هي ذاتها التي في الفندق والسوق والمحلات والمنازل. والمريح أن أنفي بدأ لا ينفر منها كما في أول الأمر. لقد تشبّع بها وصارت شيئاً مألوفاً له.. خرج صوت عبر مكبر كان على مئذنة عالية فوق الحمام ينادي (بوركتم أيها الأنقياء.. هذا هو يوم نظافتكم.. جهزوا أنفسكم للدخول إلى حمامكم والخلاص من أدرانكم.. ملعون من ترك هذا اليوم.. ملعون من فاته الاغتسال في الحمام المبارك). لقد أخذني الحشد معه وصرت واحداً منهم، للحظة تهيأ لي أن هذا الحمام هو خلاصي ونجاتي.. ماذا يحدث؟!. نساء التصقن بجدار الحمام وهن يبكين. رجال يتحدثون في ما بينهم عن بركة الحمام والراحة النفسية التي يجدونها فيه. سمعت الصوت مرة أخرى ينادي عبر المكبر (افسحوا المجال.. سيخرج المباركون المستحمون وأهلوهم.. افسحوا المجال) ثم ظهرت مجموعة خرجت دفعة واحدة من بوابة الحمام وقد بان على وجوههم الانشراح، وقد طوقتهم حماية مشدّدة. وقف الناس ينظرون بحسرة خالطها رجاء للذين خرجوا للتو، عيونهم كانت مفتوحة تحدق، والبسمة الذابلة مرسومة على شفاههم. وبعد أن غادر الرهط، سألت شخصاً واقفاً قربي (من هؤلاء؟). فأجاب وعيناه مازالتا تلاحقان موكبهم بكلمات كستها لذة كسولة ( إنهم.. إنهم المباركون.. سادة المدينة والمقربون من الحاكم العظيم.. هم سبب بركتنا.. انظر إلى وجوههم الجميلة الملائكية.. إنهم الأنظف والأطهر في مدينتنا).. داهمتني دهشة من كلامه، وللحظة واحدة كدت أصدق ما قاله، غير أنني هززت شجرة رأسي لتطير منها كلمات الرجل التي حطت عليها كعصافير ناعسة. ثم أن هناك أمراً أهم، فقد آن الأوان لدخولنا. حشرت نفسي في وسط الجموع ودخلت، أخذني الحشد الهائل إلى الداخل بقوة، لقد سقطت أشيائي وداست عليها الأقدام ورائي، وعبثاً كنت أحاول الحصول عليها. اجتاحتني رغبة الضحك بأعلى صوتي، لا يمكن للمرء الاستحمام هكذا، أين سأجلس وكيف سأرمي الماء على رأسي يا ترى؟!.لقد أخذتني الجموع إلى جوف تلك القاعة المتخمة بالبخار، وعلى جانبي الممر المؤدي لها كان هناك رجال يومئون للسائرين، انتبهت لهم، هم موظفون بلا شك. يا له من مشهد مضحك!. أطفال ونساء ورجال صرنا كتلة من اللحم، عن نفسي أنا أعلم سبب مجيئي، فقد كنت أبحث عن وجبة تنظيف لبدني، لكن هؤلاء الناس لا أدري عن ماذا كانوا يبحثون، ولماذا هم هنا وما الفائدة من هذا الدوران في قاعة يرش فيها أصحاب الحمام رذاذ ماء على الرؤوس، وبعض الصابون يتناثر هنا وهناك بشكل مطحون. أين الماء؟!. أين الصابون؟!. هل شرب رهطُ (المباركون) الماء وأخذوا وقتهم في الاستحمام وتركوا لنا هذا الرذاذ فقط؟!.. لقد ساء الوضع جداً وبدأت أشعر بالاختناق، في الحقيقة لم أستطع العودة ولا مجال لي سوى مجاراة الحشود حتى أرى إلى ماذا سينتهي الأمر. وبالفعل سار الناس هاتفين، النساء يزغردن، والرجال يهتفون منتشين، وحين سألت وأنا في نصفهم عن هذا الهراء وأن هذا ليس حماماً بل مجرد لعبة سنموت فيها اختناقاً، لكزني بعضهم، وأشار بعض آخر عليّ بالصمت حتى أخرج، فكلامي هذا إهانة للحمام وحاكم المدينة، وهذا ما لا يحمد عقباه هنا، فصمتُ خوفاً على نفسي. حتى دار الحشد في أرجاء الحمام، مكتفين برذاذ ماء على الرؤوس وصابون مطحون انتشر عطره فقط في فضاء الحمام الخانق. ثم خرجت الحشود من بوابة الحمام وقد كانت رائحة العرق من أبدانهم النتنة تفوح أشد من أول الأمر قبل دخولهم. بعد أن خرجنا استنشقت الهواء بقوة بعد انقطاع النفس، مع نوبة سعال وغثيان شديدين. ثم اقتحم أذني الصوت ذاته عبر المكبر هاتفاً أثناء خروج الجهور ( بوركتم أيها الصالحون.. هنيئاً لكم هذه النظافة.. هنيئاً هنيئاً.. نراكم في الأسبوع المقبل). وأقبل بعضهم على بعض يتباركون (نعيماً.. نعيماً)، ثم تفرقوا في الدروب..!.
منذ ذلك الوقت، وحتى بعد مغادرتي المدينة، وأنا تائبٌ من ارتياد الحمامات العموميّة..