ناجح المعموري.. رائحة الأسطورة في مائدة النص

ثقافة 2020/02/03
...

سلام مكي
 

رغم تعدد الاشتغالات المعرفية والثقافية لناجح المعموري، يسعى جاهدا، للبقاء على قيد مشروعه القديم ـــ الجديد، «الأسطورة». فناجح، حين يكتب عن الأسطورة، فإنه لا يكتفي بأدوات الكتابة فقط، بل يمسك معولا لهدم التعريفات المدرسيّة للأسطورة، والتنظيرات التي تقلل من شأنها، لدى المتلقي. ناجح، في كل حرف يكتبه، إنما يهدم الفكرة الكلاسيكية عن الاسطورة والتي تصف الاسطورة بأنها: أحاديث لا نظام لها. 
ومنذ الاشتغالاته الأول، في السرد، وحتى آخر منجز له، كان دائم التنقيب والبحث والتقصي عن الاسطورة ورموزها، وأبنيتها، في أي نص يقع بين يديه. وكتابه الأخير «الأطراس الأسطوريّة في الشعر العربي الحديث» الصادر حديثا عن دار الشؤون الثقافية العامة في بغداد، ليس الأول في مجال التنقيب بين النصوص الأدبية ومحاولة الكشف عن فضاءات وأنساق أسطوريّة، واستثمارات للشاعر أو النّاص في نصه. فقبله، كتاب «الأطراس الأسطوريّة في السرد.. فاروق وادي أنموذجا» الكتاب الصادر عن سلسلة آفاق جديدة ضمن منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق عام 2007، يقول ناجح: الذي يواجه فاروق وادي لحظة سعيه في الكتابة، هو البحث عن هويات شخوصه، إنّه التداخل بين الحاضر/الماثل وبين الينابيع/الأصول الأولى.. هذه العلاقة المميزة لشخوصه، هي التي أفضت بالقراءة في مجال الاسطورة والسعي للإمساك بها، وشم رائحتها. فناجح، يشم رائحة الأسطورة على بعد عشرات الصفحات، ويقرأ ما بين السطور، يستخدم أدواته التي لا يملكها أحد سواه، في تقليب النص، ونفض الغبار عنه، ليصل إلى غايته وهي الأسطورة، وهو كمن ينقّب بين الأطلال والأزقة الغابرة، باحثا عن صيد ثمين، وقد يضطر إلى خلق ما يريده، حتى لا يعود فارغا. فحين وقع بصره على نص للشاعر عبد الزهرة زكي، بعنوان «هذا خبز» سرح ذهنه بعيدا، ليجد أن الخبز، ما هو إلا رمز أسطوري، ليعود ويذكرنا بالأساطير والآلهة التي لها علاقة به. بل يذهب إلى أبعد من ذلك، حين يصور أن الخبز، ما هو إلّا رمز دال على الإله القتيل «تموز» الذي بعودته تعود الخضرة التي كان الخبز ابنا لها.  ناجح، يسعى لاكتشاف نسق قديم، يوصف بأنه مجرد أحاديث أو ما سطّره الآخرون، الذين لا يملكون سوى عنصر التخييل. وكأنه يسأل المتلقي سؤالا جوهريا: كيف يمكن لأحاديث وأنظمة لا معنى لها، خارقة للعادة، أن تستحوذ على مخيلة هذا الكم في الكتّاب والشعراء؟ كيف يمكن لشاعر في العصر الحديث، يملك من الأدوات ما لا حصر لها، ومنفتح على ثقافات لا متناهية، لا يختار رموزه اختيارا واعيا، وإنما الرمز يفرض نفسه عليه كيانا؟ يحاول ناجح أيضا أن يقول إن حضور المادة الأسطورية في لا وعي الشاعر، والتطعيم اللا مقصود برموز أسطورية، عبر منحها روحيا جديدة، وإلباسها ثوبا جديدا، دون أن يتعرض جسد القصيدة الى شرخ لغوي أو بنائي، إنما يعني أن تلك الأسطورة، حيّة، نافذة، تصلح لأن تكون جسدا حيّا، رغم الزمن، كما أنها قادرة على بث الروح في نصوص، عبر تغلغل لرموزها، في تلك النصوص. ناجح في كتابه الأخير، إنما يؤكد هذه الحقيقة، فالأسطورة، بوصفها مرجعية مترسخة في لا وعي الشاعر، أسهمت بخلق وحدات مترابطة ومتماسكة داخل النص. ويجد المعموري في عند شمّه لرائحة أسطورة في نص ما، فرصة ذهبيّة لتذكير القارئ بخلفيات تلك الأسطورة واحداثها التي قد تكون خافية على القارئ. الشاعر حين يستعين بالأسطورة، فإنه إنما يبث روحا في نصه وفي الأسطورة في آن واحد، وناجح يطمئن الشاعر، بأن نصّه لا يتضمن نتوءا، بل جزء ينساب بحرية، كباقي الأجزاء، بل إنه المحرك لباقي الأجزاء. إن قراءة ناجح لنص الشاعر عبد الزهرة زكي، قد أشارت وبوضوح إلى أن النص الأسطوري، ليس حبيس زمانه، وإن الرموز والعلامات التي تحفل بها الأسطورة، يمكن تحريرها من زمانها وبنيتها، وبثها في نصوص شعرية وسردية 
مختلفة، وبهذا يمكن منح الحياة للنصين معا. 
إن استعارة الأسطورة، هي محاولة اتصالية بين ماض سحيق، وحاضر متردد، وتبقى إمكانية النّاص على خلق كائن جديد، غير مترهّل، لا بالماضي ولا بالحاضر، بل قادر على البقاء على قيد الزمن. وقد يمنح الشاعر، للرمز الأسطوري، دلالة مغايرة، تكون بالضد منها أصلا، كما في «البيضة» لموفق محمد، فهي علامة على التجدد والانبعاث والخصب، في حين يراها الشاعر، علامة على العتمة الأبديّة. فالشاعر هنا، قرر ألا يتجاوز قشرة البيضة، ليدخل إلى عالم قائم بذاته. وتناول ناجح في هذا الكتاب، عددا من النصوص التي شم فيها رائحة الأسطورة، ولا أظنه سيتوقف يوما عن تتبع روائح الأسطورة والملحمة في كتابات الشعراء والساردين. ناجح المعموري، سيبقى شاهرا معول التنقيب وفأس الأسئلة بوجه الشعراء، باحثا عن روائح وأنفاس أسطورية فيها. ليثبت أن الأسطورة روح صالحة لكل الأجساد.