أزمة المثقف بين الوهم والواقع

ثقافة 2020/02/04
...

عفاف مطر
 
في وقت ما زلنا فيه نواجه أزمة فشل المثقف والسلطة في خلق مجتمعات مثالية أو على الأقل أقرب الى المثالية، وكذلك أزمة المثقف والجمهور وفشل المثقف في الوصول الى ذلك الجمهور، وفشل الجمهور لا سيّما العربي في الارتقاء الى شعوب الأمم الأخرى على الأقل، نواجه الآن أزمة فشل المثقف مع نفسه، بعدما أثبت الواقع أنّه لا يختلف كثيراً وليس بأكثر وعياً من عامة الناس، لا سيّما بعد الأحداث الكارثية التي شهدها العالم مؤخراً وعلى وجه الخصوص العالم العربي، إذ رأينا كيف انحاز المثقف في الصراعات والخلافات وأصبح طرفاً فيها، بدلاً من ادارتها وتوجيهها نحو الحل وليس التصعيد. هنا حيث نقول المثقف لا نعني الروائي أو القاص او الشاعر او حتى الفيلسوف بل المثقف المنخرط في العملية الفكرية والاجتماعية، والتي من المفترض أن يكون هدفها تماسك المجتمعات والارتقاء بها وليس سقوطها. 
وربما نفهم الموضوع أكثر لو انتبهنا الى أن الحداثيين العرب ما زالوا متمسكين بأفكار المفكرين الأوربيين الذي رحلوا منذ ما يقرب من الثلاثة قرون، مثل ديكارت وفولتير وغيرهم، ولم يطرحوا نظرياتهم الخاصة بهم؛ نظريات جديدة تسهم مع النظريات التي تطرح الآن في العالم المتحضّر لمواجهة الحاضر ومشكلاته. وهذا ليس مستغربا ففي الوقت الذي تفاجأت وانصدمت فيه النخبة المثقفة في أميركا بتولي شخص مثل ترامب رئاسة الولايات المتحدة الاميركية وباعترافهم أنفسهم، إذن لا عجب حين تفشل النخب المثقفة العربية، وتمثل هذا الفشل بأوضح صوره بانتماء أولادهم الى الحركات المتزمتة فكريا ودينيا وسياسيا. يأتي هذا الفشل واضحاً حين نعي وبوضوح شديد ان التشدد بكل انواعه قد أتى بعد عقودٍ طويلة من نشوء الحركات التنويرية وظهور المذاهب الفكرية الحديثة، والمناداة الطويلة  بحقوق الانسان وحقوق المرأة والطفل، والحديث الدائم عن ضرورة اطلاق الحريات الفردية، كل هذا السعي الحثيث يسقط بين يوم وليلة في أيادٍ وحركات شمولية متزمتة فكريّا قبل أي شيء، ويتزعم هذه الحركات قادة منهم من لا يجيد القراءة والكتابة. لذا بعض المفكرين أذكر منهم المفكر اللبناني علي حرب، يدعو الى ضرورة تخلي المفكر والمثقف العربي عن عدته القديمة، والتسلّح بعدة جديدة تتناسب والحاضر وتحدياته؛ كما يرجع علي حرب أصل العطب في العجز العالمي وليس العربي فقط أزاء هذا التشدد الفكري المتمدد،  الى عدم قدرة تعامل المثقف مع
 الحقيقة. 
فهو يتعامل معها بوصفها الحق الفاصل، أي بمنطق طوباوي كما فعل الفلاسفة من قبل. وعليه وبدلا من أن يتعامل المثقف مع الحقيقة بمنطق القبض والتحكم والمماهاة عليه أن يتعامل معها بوصفها معرفة الواقع أو التركيب او الخلق. مشكلة تعامل الانسان مع الحقيقة مشكلة قديمة جداً فحتى في حقل الفلسفة كان يرى أرسطو أنه وصل الى الحقيقة المطلقة، ومثله بقية الفلاسفة وتاريخ الفلسفة نفسه يشهد عليهم. 
لذا وجب خلق الحقيقة والواقع والمفاهيم، حسب الزمان والمكان والظرف وهو أمر لا بدّ أن يكون مشابهاً وموازياً للتطور العلمي، إذ في الحقول العلمية مثل الطب أو الفيزياء أو الكيمياء وغيرها، ما أن يضع عالمٌ نظريته، حتى يأتي من يفنّدها من بعده ويضع نظريته الخاصة وهكذا... ويذهب علي الحرب الى أبعد من ذلك، إذ يرى أنّ على المثقف أن لا ينظر الى الحقيقة كهدف منتهى، فهناك ما بعد الحقيقة او ما وراء الحقيقة، ويشبه الامر بالحداثة، فكما أن ما بعد الحداثة تهدف الى نقض الحداثة، كذلك يجب أن تكون ما بعد الحقيقة ودورها في نقض الحقيقة. ومن ثمّ ليس على أي مثقف يدعي أنّه أمسك بها ان يشعر بالفخر، بل عليه إذا كان يريد فعلاً تغيير الواقع وتطوير مجتمعه، ان يتخلى عن نرجسيته ويحطم مركزيته، لخلق أفكار ومفاهيم وطرق والتحلي الدائم بأسلحة النقد والنقد الذاتي والتمرّس عليها، تتناسب ليس فقط معه بل الأهم أن تأتي مناسبة لمجتمعه وتحديات هذا المجتمع وطموحه، والعقبات التي يواجهها، حتى لا يصبح المثقف كما هو حاله الآن جزءاً من الأزمة.