يصبو نزار عبد الستار في رواية "مسيو داك" الصادرة ببيروت عن دار هاشيت أنطوان الى امتحان أنوية الذاكرة في خيط سردي لا نصي (أي امتلاك واقعي لناصية جزء من النص يغذيها التخييل)، وتحيلها الجمالية على الشعرية، فشعرية الخطاب السردي تنهض على الجمال أو (استاتيكية الخطاب)، ومن هذا التعالق الموهوم بتشخيص أو تجسيد ذاكرة الواقع.
تنهض رواية "مسيو داك" بصفتها نصّا قادما من الأنوية الذاكراتية، محملا بخطورة تجربة بكر، يصعب تبنيها، أو محاورتها، أو طرحها على قارعة التلقي، بدون حذر، لكن شعرية الافتتاح النصي (الإهداء) تؤشر نحو بداية واقعية يقوم عليها خطاب يغلب عليه التخييل:" وفاء لوعد قطع عند الثالثة من بعد ظهر يوم 2/ 5/ 2019"
وتحت هذا الوعد يؤسس نزار عبد الستار لستراتيجية (زمكان) شديدة الحساسية، تتماهى فيها صور وأخيلات شتى، الى حد لم يستطع المتلقي فيها أن يفرّق بين ما هو واقعي وبين ما هو خيال. ربما تكون هذه الخطوة الأولى في اقامة علاقة حذرة بين (الواقع/ الخيال)، إذ تبدأ رحلة التعالق السردي، التي يتناوب على تشكيلها "زياد العراقي" و"ربى" التي تحمل الجنسية الايطالية، خط سيري مفترض رسمه السارد باتقان وامعان، قصة حب تبدأ ولاتنتهي، تستمر في تراكمها المعرفي الذي شكله نزار على هيئة فسيفساء هلامية، وان كان بين آونة واخرى يلقي علينا باقة ادهاش واقعي، لنقول فعلا ان كل شيء في الرواية واقعي.
إنّ تلقائية الفعل الخيالي مطبوعة بالآنية والقدرة على المفاجأة، وعدم التكلّف وانعدام أي إكراه خارجي للتجربة الخيالية، أما المراقبة الذاتية فتحيل على المظهر القصدي للعملية الخيالية، إذ تمتلك الذات حرية المبادرة للدخول في التجربة، وتوجيه مسارها وايقافه حسب رغباتها، بينما يؤشر الاحتواء الذاتي على لزوم الفعل الخيالي واستغنائه عن استقدام اي عنصر خارج عنه، مكتفيا بذلك في المعطيات المحايثة لموضوعه، فالى جانب (كويلو) في (الخيميائي) يقف نزار عبد الستار في محاولة لتطبيق المثل السائر "إن ما يمسكه الخيال كجمال..لا بدّ أن يكون من الحقيقة"، من هنا تظهر قدرته على اعادة حدود مجال النشاط الذهني الابداعي، باعتبار ان الواقعي يقابل وينفي الوهمي، وليس الخيالي، يبتكر نزار لروايته مجموعة من الصور الذهنية التي تمكّن من اسقطها على واقع عاصره ليضغط على فضاءات الخطاب في "مسيو داك"، مؤكدا لنا أنّ كلّ شيء واقعي ولا شيء غير الحكي الواقعي، يضغط على المكان ليكون لبنانيا أكثر من اللبنانيين أنفسهم.
يرصُّ السارد في روايته رصّا حشدا من الأمكنة والشخصيات التي تدفع المتلقي للتيقّن بواقعية الاحداث، فأماكن مثل بلدة حمّانا التي يزرع فيها الكرز، ومصيف عالية الشهير، و"مصيف صوفر" وقرى "العزونية" و"الشوف" و"نبع الصفا" و"عين زحلتا"، فضاءات أسس الراوي من خلالها شعرية مكانية، أهّلت الخطاب ان يكون مكانيا بالدرجة الأولى، من هنا جاءت (استطيقا التخييل)، شيء من ابداع نزار عبد الستار هو ذكاؤه وثقافته العالية ولغته (لغة ثالثة)، وقدرته على اقتراف اصعب النصوص مهما كان نوعها وتحويلها الى خطاب سردي مائز له شخصيته الخاصة به وصوته وملامحه وسماته.
تشتبك الحوارات والصور والحبكات اشتباكا مصيريا، وبخاصة عندما تتحول "ربى" العالمة في امراض النباتات الى طريدة من قبل شركة ايطالية، تهددها بالقتل او العودة للعمل معها، ومن خلال انتفاضة اهالي الجبل، تلقى "ربى" موجات كبيرة من التعاطف والحماية تساعدها على اكمال مشروعها في محاربة الحشرةmevie التي تظهر في جنينة كرز في بلدة حمّانا وهذه الحشرة التي تدور حولها الحقائق والاساطير وتتصارع على محاربتها دول هي: "في العادة تتصرف بطريقة تقليدية وكأنّها كابنودس عادية، فتظهر كحشرة بالغة في نيسان حتى ايلول متغذية على الأوراق ثم تضع بيوضها في التربة لتفقس بعد ستة ايام فتتعمق اليرقات حتى تصل جذور الشجرة وتبدأ بأكلها، وفي مدة لاتزيد على سنتين تكون قد احدثت أنفاقا مليئة بنشارة الخشب تصل الى عنق الشجرة لتذبل بعدها وتموت. ولكن اذا أرادتMevie مهاجمة جنينة كرز فإنّ إناثها تتجمّع بأمرة قائدة بالغة وتنام مدة سبع سنوات وما ان تتساقط البتلات وتظهر ثمرة الكرز الفتية حتى تبدأ بعمل شبكة انفاق على عمق 40 سم تنتشر على مساحة الجنينة".
يمثل "مسيو داك" أو "زياد العراقي" دورا خلّاقا في المحافظة على "ربى" حتى من نسمة الهواء، وهما اذ يمزجان المتعة والعمل بآن واحد، فانهما مع اعلانهما الحرب على Mevie في جنينة توفيق ببلدة حمّانا يعلنان الحب على بعضهما، لايستطيع احدهما فكاكا عن الاخر، تتعالى نبضات قلبيهما، مع تعالي اصوات المعاول وهي تشق الارض انفاقا بحثا عن الحشرة الغامضة.
رواية "مسيو داك" تجربة ذهنية تشتغل على حافة الواقع، نجح نزار عبد الستار في خلق أجواء محلية من شخوص وأمكنة وفعاليات، ارتكزت عليها الرواية، صنع لنا عالما سرديا لشدة تحبيكه يبدو انه واقعي بجميع تفاصيله، وليست المسألة معجزة، ولكن نادرا ما يتقنها أحد، صحيح ان (كويلو) نجح نجاحا باهرا في (الخيميائي)، لكن نزار عبد الستار نجح ايضا على المستوى نفسه في "مسيو داك"، بل أبلغ في ابداعه النادر هذا.