مقالات وقصائد وأحزان ضد التجنيس

ثقافة 2020/02/05
...

د. نصير جابر
 
بعد مجموعتها الشعرية (جَسدها في الحمام) التي أثارت الكثير من الجدل النقدي، تطلّ علينا ابتهال بليبل بكتاب صادم جديد، كتاب مستفز لكل ملكات وحواس المتلقي  بدءاً من العنوان الذي سيحتاج قرّاء كثر العودة إلى المعاجم لتبيان واستيضاح معناه الحرفي. 
بينما سينتظر بعضهم   قراءة الكلمة الأخيرة لإدراك مغزاه وتحديد مديات خطابه المُتّسع والمسنّن الذي يتشابك مع ملامح تأويلية كثيرة. وانتهاء بتصنيفه وتجنسيه إذ جمعت فيه المقالات الصحفية والنصوص الشعرية جنبا إلى جنب. 
نيكروفيليا، مفردة كابوسية مُعتمة، لا يغرّنّكم وقعها الخفيف في النطق، فهي تعني انجذابا جنسيا نحو الجثث، وهو فعل مُسجّل ومعروف منذ الأزل فقد ذكر(هيرودوت) في كتاب "تاريخ هيرودوتس" بأن المصريين القدامى كانوا يتركون النساء الجميلات المتوفيات لعدة أيام قبل تحنيطهن لمنع تكرار وقوع حالة قام فيها المحنط بالجماع مع جثّة امرأة كانت قد توفيت حديثاً.
ولاشك في أن هذا الفعل هو واحد من أكثر الأفعال البشرية ظلامية وتعقيدا ودناءة ويحتاج الاعتراف بوجوده إلى جرأة كبيرة وصلابة لأنه يخدش، بمخالب قاسية، صورتنا الإنسانية التي من المفترض أنّها ناصعة وآدمية، فإن كان هذا الفعل الوحشي قد لوحظ عند الحيوانات فإنه ربما يُستساغ على مضَض كونها لا تعي ولا تفكر وليس لها ذاكرة فردية أو جمعية، وبأي حال من الأحوال هي لن تواجه ذاتها يوما ما.
والنيكروفيليا أو (الجُدثية) كما نحتت لها العربية هذا  المصطلح  الدقيق، لا وجود لها في مظان الكتاب إلّا في مقالة تحمل العنوان نفسه تبدأ بمقطع افتتاحي مأخوذ من ملحمة (الإلياذة، والأوديسة) إذ يروي "هوميروس": (حينما انتهت مبارزة أخيل مع ملكة الأمازون بانتصاره، سارع إلى نزع خوذتها ليتبيّن له أنها باهرة الجمال، ليحتفظ بالجثة بعد ذلك ويمارسَ معها الجنس).
وفي ما عدا هذا المقطع وهذه المقالة لا وجود لهذه النيكروفيليا بوجهها الذي نعرفه، ولكنها مبثوثة في كلّ سطر بوصفها الافتراض التأويلي الوارد والمقترح دائما إذ إنّ هيمنة العنوان الضاغطة والقامعة بثقلها الرمزي ستبقى تَشتبكُ مع كلّ (ثيمة) مبثوثة في المقالات والقصائد منتجة معاني دالّة تصلح جدا لتكون الحل الذي ينتظره المتلقي  وهو يخوض في مقالات كثيفة موجعة مثل:
(عندما تنسى المرأة نفسها، السكوت والخضوع، البورنو المسموح، فتاة الترويج، أقدام سندريلا، صدمة الجسد الفينوسي، شعر إبطيها غابة من الغنج، الشيفر الجميل، مثيرة لولا الحزن) وقصائد مثل (شفرات حلاقة، آلان ديلون، الأريل الذي بات وحيدا، وغيرها) حيث يختلط الشعر بالنثر في تناسق هارموني دال حاولت فيها بليبل أن تَستغور وتستبطن عالم المرأة وتَندكُّ في لحاء شجرة الأنوثة اللفّاء باحثة عن مسارب نسغ ديمومتها وصولا  ربما إلى معنى الحياة الذي لا يمكن أن يكتمل لولا وجود هذه الشجرة.  ولعل أهم ما يطرحه هذا الكتاب هو  ثلاث مسائل شائكة وحيويّة في آن واحد: الأولى تتعلق بـ (النسوية) وقضية المرأة التي لم تجد لها في العراق مدافعات ومدافعين إلّا في مناسبات نادرة وأغلبها ذات صبغة دعائية استعراضية تُلمّح وتُصرّح في حيز ضيق من دون الغور والاستنتاج و يكون الغرض منها في الأعم الأغلب هو (البروبغندا) المرتبطة بأجندات غير ثقافية. بينما تأتي هنا القضية واضحة وذات عمق وجديّة كبيرة إذ تظهر الجذور التأريخية والنفسية والاجتماعية لها وتظهر بليبل في موضع الحياد وكأنها الذات الرائية لا الذات (الفاعلة) بوصفها أنثى تتحمل الثقل المعنوي لتأريخ النساء، هي هنا شاهدة مؤتمنة وهذا ما يعطي مشروعية كبيرة لما تقوله إذ تتجلى الموضوعية والعلمية في طرحها.
أما المسألة الثانية وهي خلط الشعر بالمقالة في كتاب واحد، وهذه تبدو لي لا تبتعد عن القضية الأولى؛ فبغضّ النظر عن السوابق الكثيرة التي ظهرت فيها كتب ترفض التجنيس أرى أن الأمر هنا يندرج ضمن قضية المرأة كذلك، فالمقالة والشعر يتجاوران من دون تزاحم وقمع ورفض في فضاء الكتاب الكرافيكي، ربما للدلالة على أن المرأة والرجل يمكن أن يتجاورا كذلك في الفضاء النسقي والحياتي من دون إلغاء وقمع. 
أما المسألة الثالثة، وهي الأهم بحسب وجهة نظري، وقد ألمحت لها في درج المقالة، فتتعلق بالاشتغال الفني للعنوان ومستويات الخطاب فيه إذ طغى على مجريات السرد والشعر وأصبح هو الطوق الأكثر أمنا الذي تتشبّث به الأيدي حينما يجرفها النص نحو ضفاف أخرى. النساء في أغلب نماذجهن التي وردت في هذا الكتاب (ميتات) بفعل انتهاكات كثيرة منها الحروب والتهجير والفقد والفقر لذا هنّ مجرد جثث لا تصلح للزواج من الفرح أو الأمل وإن حدث ودخل حياتهن فهو سيكون مجرد(نكيروفيليا) .
ولو تأملنا عالمنا اليوم المُتخم بالأحداث والوقائع التي نتشاركها ونتفاعل معها بصورة مباشرة بفعل التكنولوجيا، لو تأملناه كما فعلت بليبل سنجد الكثير من أفعالنا اليومية قد لوثتها النيكروفيليا بطريقة ما.
عالم هذا الكتاب (بمقالاته وقصائده) عالم مثقل بتفاصيل كثيرة فهو فضلا عن المتعة التي يوفرها للمتلقي إذ تستعمل فيه الشاعرة لغة سهلة مكثفة ناقلة الكثير من القصص والوقائع التي كانت شاهدة عليها، يقدم كذلك تحليلات دقيقة لظواهر اجتماعية وثقافية.  يمكننا القول إن هذا الكتاب العصي على التجنيس هو خطوة رصينة جدا في مسيرة الشاعرة.