الكثير منا يذكر مشهداً للعقيد معمّر القذافي وهو يخطب في الجمعية العامة للأمم المتحدة, حيث بادر الى تمزيق ميثاق الأمم المتحدة ورميه جانباً. وفي واحد من لقاءات القمّة العربية, ترك القذافي الرؤساء والملوك في حال اجتماع, وتفرّد بجمع الإعلاميين من حوله في مؤتمر صحفي.
لم تقتصر ‹‹ شعبوية›› القذافي على هذا القدر من التصرفات الشاذة, بل ثمّ الى جوارها تلك الأزياء المبهرجة التي كان يرتديها, مضافاً الى الكتاب الأخضر والنظرية العالمية الثالثة التي ربما كانت من بواكير ‹‹ خزعبلاته›› وتغيير بداية التأريخ الاسلامي من هجرة النبي صلى الله عليه وآله الى وفاته, من دون أن ننسى طبعاً اطلاقه على ليبيا رسمياً عنوان ‹‹ الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى›› وعلى نفسه كما سمعته مباشرة, لقب ملك ملوك أفريقيا , ومع ذلك لم تحمه هذه الشعبوية وما يقع في خانتها, من ثورة شعبية ضدّه ومصيره المعروف.
بلدنا على عهد النظام الساقط لم يكن بعيداً عن الشعبوية السياسية ومظاهرها البدائية البائسة, التي برزت مع صدام حين كان نائباً ثمّ رئيساً, بدءاً من صوره في الأزياء التي لا تعدّ ولا تحصى, وزياراته المبرمجة الى البيوت وجولاته في المدن يوم كان نائباً وفي مطلع رئاسته, فهو الفلاح والعسكري وابن الهور والغربية والشمال وهكذا, وهو من يذرف الدموع في قاعة الخلد, ثمّ يقتل العشرات من رفاقه, وهو يصلي في المراقد المقدّسة, ودبابات قواته تضرب قببها وتحرق المصلين، وهو مع الأطفال في الصور، ليقتل آباءهم في السجون , ويدفن الأسر والعوائل أحياء!.
في دولة قريبة الى جوارنا هي إيران, مثّلت ظاهرة الرئيس السابق أحمدي نجاد, ذروة من ذرى الشعبوية السياسية, حتى صنّف أحد الباحثين الإيرانيين كتاباً قائماً بنفسه,عنوانه: ‹‹الشعبوية الإيرانية: أحمدي نجاد أنموذجاً››, وقد كان من أبجديات هذه الشعبوية كما روّج هو وأنصاره, أن أحمدي نجاد يتحرك في الأمم المتحدة وتتحرك من حوله هالة نور, إذ عُرف عن نجاد حرصه الشديد على زيارة أمريكا سنوياً, والقاء خطاب في الجمعية العامة. ومن الأمثال الصارخة لشعبوية نجاد المخلوطة بالمقدّس, هو ايحاءاته الدائمة بضرب من الصلة الغامضة مع الإمام المهدي, وكناياته الدائمة, أن من يدير إيران ليس هو أو غيره, بل ‹‹ صاحب الزمان›› هكذا الى آخر ‹‹ الهلوسات›› الشعبوية الممزوجة بالمقدّس, التي واجهت هجوماً كاسحاً من أغلب الاتجاهات السياسية والاجتماعية في إيران, ونقداً صريحاً من رجال الدين.
محلّ الشاهد, أن البعض منا يظن خطأ ولا يزال , أن الشعبوية السياسية حكر على قادة منطقتنا وسياسيينا, والحقيقة أن هذا السلوك لا يكاد ينجو منه بلد.
ففي خطاب يعدّ هو الأهم في الحياة السياسية الأمريكية، هو خطاب الاتحاد, ترك بعضنا مادّة هذا الخطاب وانشغل بالمظاهر الشعبوية . على سبيل المثال وجدت أن ردود الفعل الأولى للمواقع الإخبارية الإيرانية, تركيزها على أن ترامب لم يمدّ يده لمصافحة نانسي بيلوسي رئيسة مجلس النواب, وأنها بقيت جالسة لم تنهض لتحيته, وحين كان الجمهوريون المحازبون له ينخرطون بنوبة تصفيق عارمة, كانت بيلوسي تكتفي بنظرة ازدراء للرئيس, من دون أن تنهض من مكانها, وتشارك بالتصفيق, وأخيراً بادرت في خطوة لم يعهدها الكونغرس قبل ذلك, الى تمزيق خطاب الرئيس!.
لقد تغافل هذا البعض عن أن خطاب الرئيس الذي بلغ (6000) كلمة, هو من أهم خطاباته. وقد ولدت استراتيجيات أمريكية كبرى من خطابات حالة الاتحاد, حصل ذلك مع نيكسون وكارتر وريغان وبوش الأول وكلينتون وبوش الثاني وأوباما, والآن مع ترامب, فماذا نحن فاعلون؟!.