سامر المشعل
من سمات الاغنية العراقية في عقد السبعينيات من القرن الماضي، ازدهارها بالمقدمات الموسيقية الواسعة، والتي تستغرق زمناً طويلاً، اذ اخذ المستمع يستقبل هذه المقدمات ويطرب اليها بمثل شغفه بالاغنية.
الاهتمام بالمقدمات الموسيقية من قبل الملحنين العراقيين، جاء بتأثير الموسيقى المصرية ومحاكاتها، حيث اكتسبت الغناسيقية العراقية ثراءً في البناء اللحني للاغنية، وكان الملحنون يمنحون المستمعين وجبة موسيقية في ثنايا الاغنية في مقدمتها أو بين المقاطع والكوبليهات وفي الخاتمة.. وكأنها سيمفونية، ما انعكس ايجاباً على ذوق المستمع. بل منهم من راح الى ابعد من ذلك في مزج الموسيقى الغربية وعدد من الايقاعات الاجنبية مثل الرمبا والسامبا والفالس.. والاقتباس من السيمفونيات العالمية وتوظيفها بالموسيقى العربية.
المقدمات الموسيقية كانت قصيرة في عقد الستينيات ثم اتسعت في سبعينيات القرن الماضي، بفضل الملحن المبدع طالب القره غولي الذي برع في صياغة المقدمات الموسيقية، الى جانب مجموعة من مبدعي السبعينيات منهم كوكب حمزة، خاصة في مقدمة اغنيتي " الطيور الطايرة " وأغنية " ابنادم "، والملحن محمد جواد اموري ونخص بالذكر أغنية " ياحريمة " التي كانت مدار جدل واعجاب بهذه المقدمة التي بدأها بمقام اللامي ثم العجم ليستقر على مقام العجم.
فالمقدمة الموسيقية تكون من مقام الاغنية نفسه، وتمهد الموسيقى للاغنية بجمالية وتأمل وتطريب، فيها استعراض لثقافة الملحن ورهافة حسه وذوقه وخياله.
ثم اخذ الملحنون يضخون في المقدمات الموسيقية جملة من المقامات والتحويلات والتنويعات الايقاعية، اتسعت هذه العملية بمغامرة جمالية اضافها القره غولي الى الاغنية العراقية، فقد استغرقت المقدمة الموسيقية لقصيدة " البنفسج " للشاعر الكبير مظفر النواب اكثر من اربع دقائق وفيها محاكاة واضحة للمقدمات الموسيقية المصرية وضعها على مقام النهاوند.كذلك فاجأنا الملحن محسن فرحان في أغنية " عيني عيني " في استخدام ايقاع المقسوم المصري وبطريقة جمالية.
كان الملحنون العراقيون يرهفون السمع للقصائد التي تقدمها أم كلثوم وفيها مقدمات موسيقية هائلة ورائعة تمثل فتحاً بالموسيقى العربية، مثل المقدمة الموسيقية التي وضعها الموسيقار محمد عبد الوهاب بأغنية " أنت عمري " والمقدمة الموسيقية التي وضعها الموسيقار رياض السنباطي لقصيدة " الاطلال " وغيرها. أخذ الملحنون يتبارون بمنافسة ابداعية في وضع مقدمات موسيقية منذ منتصف الستينيات الى نهاية السبعينيات. وللانصاف لابد أن نذكر الموسيقي حسن الشكرجي الذي كانت بصماته الابداعية واضحة في تنويط وكتابة اغلب الاغاني في عقد السبعينيات.اختفت المقدمات الموسيقية في الاغنية الحديثة، وذلك يعود لطبيعة التلقي وسرعة الاغنية ومباشرتها والجانب الاخر يتعلق بثقافة الملحن وضعف مخيلته وتدني مستواه المعرفي والذوقي وان أغلب النصوص بسيطة وهوسات واهازيج لا تستحق الى مقدمات، بل احياناً لا تحتاج الى توزيع موسيقي.