كائنات وهميّة حزينة

ثقافة 2020/02/09
...

ابتهال بليبل 
تشكّل وصفات الكاتب الكولومبي فيكتور أباد: وهو مؤلف كتاب سردي يبحث عن حل لكآبة النساء انموذجا، عمّا ذهبت إليه المفكرة الايطالية ادريانا كافاريرو- في بنية الخطاب التي تنشأ فيها الذات وتحصل على الاعتراف، بعيدة عن الطابع اللا شخصي. تؤكد كافارير أنّ العلاقة التكوينية الثنائية (أنا) و(أنت) تفرض وجود المتخاطبين وجوداً حيا يستبقي فرديتهم وخصوصياتهم ويتعذر معه
 استبدالهم. 
وهي – أقصد- وصفات إشكالية تعيد ترتيب نفسها من جديد وتخرج محملة بمفاهيم جديدة تظن أنها قادرة على أن تجنب المرأة المزيد من تقهقر الروح وانقلاب الجسد لغرض الهروب من الحزن، لأنه - والحديث للمؤلف – لا شيء أكثر حكمة من الحزن، فالهموم التي لا شفاء لها تحصل يومياً، تحصل مع غيرك، تحصل معنا، ولا نستطيع فعل شيء إزاءها، أو لنقل، ما بيدنا حيلة للشفاء منها سوى الاستسلام لذلك العلاج الوحيد الضارب في القدم ألا وهو الحزن ذاته، ففي الحزن علاج لك.   
لكن، هناك أسئلة ملحّة منها: ممَّ تتكون هذه الوصفات؟ وبأي معنى يمكن لها أن تمتلك الحل أو تقدّم وصفاً لنفسها؟، يكتب المؤلف أباد في (وصفات لنساء حزينات)، على سبيل المثال: «قليلات هنّ النساء اللاتي لا يتقنّ فن العيون، فن النظرات الحاذقة. فأنتِ تتعلّمين ذلك الفن إما بالمشاهدة أو أنه يكون فطرياً فيك وأنت على دراية به وأنت كنتِ في رحم أمك.
لإضفاء إشراقة على نظراتك يجب أن أعطيك وصفة منك أن تغسلي عينيك في محلول يتألف من رشتين من الملح في لتر من الماء المغلي.
 أعرف أن شيئاً متواضعاً جداً كهذه الوصفة لن يبدو سحراً بالنسبة لك. فالوصفات المتواضعة لا تستحوذ على ثقة الناس، وهذا هو السبب الذي يكمن وراء قيام الأطباء المشعوذين والمعالجين الشعبيين والأطباء الحقيقيين بقضاء حياتهم وهم يبتكرون كلمات وتعاويذ ذات أسلوب منمّق ومعقد- فما من أحد يؤمن بالتواضع. اغسلي عينيك بالمحلول المذكور، ثم وأثناء قيامك بغسيلهما اتلي هذه الصلاة السحرية الغامضة: (أيها القناع الحميد، أيها البكاء الذي لا اسم له، امنحني عيوناً مشرقة). ستصبح ألوان قزحية عينيك أكثر وضوحاً، وقرنيتاهما شفافة، وجفناك أكثر انطلاقا نحو الحرية، وبياضهما أشدّ بياضاً من البياض الذي يحيط بأعلى درجة من درجات بريق العدسات الكرستالية. سينبعث النور من عينيك بحيث لن يكون بمقدور أولئك الذين يلمَحون (بؤبؤ) عينيك للحظات أن يفعلوا شيئا سوى أن ترف جفونهم من شدة الدهشة».
وهنا نكتشف أن الطابع اللا شخصي لا يقف بمعزل عن قالب مهيمن من المعايير الثقافية والأطر الفكرية المتصارعة، ويشترط هذا القالب لنشوء لـ (أنا) ألّا تمتلك قصة تخصها، بالرغم من أن الـ (أنا) قد لا تجد مكانها بين هذه المعايير.  ويقدّم أباد في كتابه (وصفات لنساء حزينات) واقعاً يتجرد من ملكية الذات، لأنها – اقصد- الذات ستكون منخرطة في الاندماج والتكيف مع معايير ستبدو بعالم حقيقي يتعلق
بالهويّة.  وبمزيد من التحديد ومن خلال استخدامي لعبارة (كائنات وهمية)، لأننا نجهل وصف هذه الكائنات كما نجهل وصف المرأة، ولكن في صورتها ما يتلاءم ومخيّلة المجتمع ومعاييره الثقافية، ولهذا تظهر الكائنات الوهمية مختلفة، وقد نقول إنّها ليست عابرة ولا جدوى منها، وكذا الحال تجاه المرأة، التي يمثّل الحديث عنها غالباً بأنّها العنصر الذي بحاجة لإثبات هويته، كما ويشكّل هذا الحديث مصدراً يحثها لاكتمال وجودها، ذاتها، ولكن بطرق يدركها ويؤمن بها الرجل لا المرأة نفسها، كما في وصفات هذا الكتاب. 
وبالارتكاز على مقولة “أعطني مقدار أونصة من الزُهْم وعطَّاراً حاذقاً وسيكون ذلك كفيلاً بجعل خيالي شاعرياً”، وهي لشاعر إنكليزي كان قد بنى المؤلف كتابه (وصفات لنساء حزينات) عليها، فإنّ هذه المقولة هو الأكثر جدارة بتصوير حال المرأة التي تبصره وصفات الكتاب، لأن وجودها يتعلق كله بالمطبخ، ثمة دائرة تفضي إلى رؤية قديمة عن المرأة ولكن بعالم جديد، رؤية تصوّر الخرافة الشعبية التقليدية وكأنها أشدّ ارتباطا بالمرأة التي تبحث عن ذاتها اللا شخصية.  يطرح آباد: إن “كنتِ تسعين وراء مغامرة غرامية، أو وراء تمضية ساعات يومك، أو إن أدركت أنكِ ستخسرين كل شيء إن لم تعطي كل ما لديك، حاولي أن تكوني أكثر عفوية قدر استطاعتكِ. لا تتّبعي أي استراتيجيات، ولا تضحي بلحظات الانتظار، فربما تكمن الروعة أيضا في تقديم كل وجباتك الشهية منذ البداية”. وكأنّ المؤلف هنا قد أدخل وجود المرأة بثنائية –الإيروتيكيّة- وهو أمر غالباً ما يعيدنا إلى تأمل العلاقة التي أفترضها هو مسبقاً. 
من الواضح أن المطبخ يمتلك فاعلية سببية يبرهن من خلالها شرعية علاقته بالمرأة، لكونه موجّهاً لإقناع الرجل، فكل فعل تؤديه المرأة مع أدوات الطبخ ومواده هو ايماءات للإقرار بأن الرجل هو المقصود.
يلمّح الكتاب عبر وصفاته بشكل غير مباشر إلى الصّلة الإيروتيكيّة في علاقة المرأة مع المطبخ، ويستعين أيضا بتقاليد الطباخين المحترفين. والنظرة الجنسيّة التي لا تفرض تقديم الوجبة الرئيسة في الولائم أو الحفلات الكبرى قبل تقديم المقبّلات. وتبدو هذه التطورات جليّة في علاقة المرأة بالرجل، إذ تبدأ بنظرة خاطفة ثم ابتسامة وصولاً إلى قمة العلاقة التي اقتربت مجازياً من تقاليد الطباخين، واندمجت في الذّات اللا شخصية عبر توظيف الوصفات كنمطٍ تجريبي يقدمه الرجل للنساء الحزينات. 
ومع الوصفات التي قدمها الرجل لا المرأة في الكتاب، ومع اهتمام النساء بها عبر حياتهن اليومية، إلاّ أنها –مجدّداً- تعكس ثقافة المجتمع التي تعيد أنماطاً جديدة من الكينونة التي يجب أن تكون عليها ذات المرأة، وخاصة، عندما تفكر بإيجاد حل لكآبتها.