عن النعمة الباقية

ثقافة 2020/02/09
...

ياسين طه حافظ 
 
جثوت مثل طيرٍ أتعبته عاصفة. لذت بمعبد بوذيٍّ صغيرٍ فهو قريبٌ مني. أنا لا أجد في المعابد الكبيرة ولا في الكنائس الفخمة ذوات الطرز والأعاجيب ما أجده في معبد صغير متوحّد أو في كنيسة قرية نائية أو ما أجده في مرقد ولي بين نخلات متباعدات لا يعرفه غير القريبين منه. 
في المعابد الصغيرة أراني أقرب الى السرّ والله والمعنى. في ذلك المكان هذه المرة، وقد غادرنا نيودلهي فلا نعود لها إلّا يوم السفر، حططنا مثل مسافرين قدامى. وكان المساء فتركنا حقائبنا في ملاذنا الجديد لنرى البلدة الصغيرة، لتحيتها أو لضمان السلامة فيها. هو أدب الضيوف. 
صباح اليوم الثاني كان المعبد الصغير غايتنا بعد أن حدثنا مضيفنا عنه. دخلنا، كما لنغرق في الصمت. الرهبان مغلقة أوجههم بصمت يشف قليلاً، وهم لا يريدون الكلام لولا ابتسامة يهبونها كقطعة حلوى صغيرة لمن يلتقونه من الغرباء. 
مصطبة من خشب قديمة في زاوية أمام تمثال بوذا. بوذا هادئ يعرف الكون ولا يأتي بحديث عنه. 
في تلك الجلسة، مرت أفكار شتى من أيام الخلق وما قيل عنها الى أحداث العالم الى ما تذكّرني فيه الريح من عواصف وفيضانات أطاحت بمدن فليس غير ركام فلا حياة ولا ناس بعد سنين.
بين هذه الأفكار والأحداث تذكّرت آخر ما شاهدته في التلفاز. ذلك المشهد الكوني حيث المجرات وكواكبها اللا عدَّ لها، في الكون الواسع، بينها واحدة صغيرة، كويكب لا يشغل انتباها ولا يحسب له بين عديد الكواكب حساب، حتى ليبدو نقطة تدور. هذه التي لا شأن لها، هي الأرض التي نعيش 
عليها! 
هكذا نحن نعيش، هكذا نحن على كوكب صغير يدور في الكون الذي لا أحد يدري كيف ولا الى أين ينتهي. قال الخبر التلفازي: من يصدق على هذه النقطة الدائرة في الفضاء القصي يعيش عليها أكثر من سبعة وعشرين مليار إنسان، بينهم نحن؟ 
كيف وجدت هذه الجموع، من أين تهيّأت مواد خلاياهم ومن أي البقاع والأزمنة والمواريث والأنواء صيغتنا البشرية وما هذه الأفكار والعواطف والأصوات في الدوامة التي عبرت بناسها ملايين السنين؟ 
لِنَعُدْ الى معبدنا البوذي إذ مرَّ بي عابدٌ سمح الوجه ناعم الكلام ليطمئن أنني على ما يرام، فقد طالت جلستي الصامتة ومفتح العينين بلا حراك كأن فقدت الوعي. 
انتبهت. شكرته على إيقاظي وعودتي الى المعبد بعد رحلتي السماوية. ابتسم كريماً وغادرني وكأن اعتاد على أحوال كهذه أو هي ضمن ما في الحياة من أحوال. 
شعرتُ بأن لي صلة بالمكان ولا أريد أغادره دونما كلام أو وصول الى شيء. لكن ما كان لي شيء لأبقى والمعبد ليس كما أتمنى، ان لم أكن من الطارئين على عالمه وأجواء عبّاده أو الرهبان. أولاء منشغلون فيه أو انزووا مبتعدين. 
درتُ حول بوذا، واضحةٌ لا مبالاته وعزلته الخاصة مهما اشتدَّ حوله الزحام. كلّ صلته بالسرّ أو بالمعنى أو بالفراغ الذي تركد فيه الناس والأشياء. 
أخذتني خطاي الى حجرة في الركن الأيمن فلا بناء ولا أحد بعد. وجدت راهباً عابداً وديعاً اقتعد مكاناً وخلا لنفسه. أحد الرهبان هو، لكنه بدا بلا صفة. لم يتكلم، لم ينهض ليدلّنا أو ليجيب عمّا سنسأله. فقط أشار من مكانه الى مقعد قريب. هذا يعني: يستضيفني أو أن انتظر حتى ينتهي من شأنه أو لأستريح إن كنتُ متعباً ثم أمضي. لكنّي لم أرَ له أيَّ شأن، فلا أداة ولا كتاب ولا هو يصغي. معنى هذا أنّه يهب الناس بعض وقته وباقي الوقت لما هو خالد أبدي! 
جلست قربه، الحجرة خالية إلّا من فراشه ورزمة أوراق وتمثال صغير لبوذا رأيته لامعاً، واضح أنه يُمسَح ويعتنى به وليس مما يُعتاد عليه ويُنسى. إذاً هذا العابد لا ينقطع عن الأبد حتى حين يكون وحيداً في حجرة نومه أمام بوذا، لا يفارقه. هو يعيش المعنى بحضوره ورفقته وعبادته. 
بعد دقائق، أخرج لي قطعة خبز عليها أربع وحداتِ مشمش مجفف وسكب لي من جرّته قدح ماء، وعاد لشأنه. تناولتها بالتذاذ، بشعور طارئ بالجوع، برغبة انتماء الى جو، الى عالم بدا غريباً وحميماً في آن وأني أجد نوعاً من الراحة جديداً عليَّ. 
بعد الانتهاء رأيتني قانعاً راضياً وفي داخلي خيط ضوء عذب. لم أعد ضيفاً في حجرة راهب أو في عزلة عابد، صرتُ بك كياني واحداً ممن يحومون لتلقي البركات والسلامة من 
بوذا. 
وحين عدت لتمثال بوذا الكبير في المعبد، رأيت غيري واقفاً في مكاني تماماً، قرب الركن حيث يبدأ الانعطاف. ليس لي الا المغادرة الآن، الا أن اخرج للعالم الذي لذت منه دقائق وها أنا أعود إليه. بعد خساراتنا ومكاسبنا والخصومات والتسابق والكراهات والضياع، ليس جهلاً يجيء الناس هنا، إنّهم يقتربون من السرِّ، من النقاء الكامل، من النعمة الباقية ...