شَفَراتُ جَبلُ جليدِ النَّص

ثقافة 2020/02/10
...

محمد الحدّاد
 
 
الكتابة مُثقلة دائماً بما يسبقها وما يتبعها، لأنها محكومةٌ، مُسبقاً، بشروطِ هندستِها المُجحفة طولاً وعرضاً وارتفاعاً وزماناً، ولاحقاً متهمةٌ، كذلك، ومركونة بتهمتها تلك حتى يتمَّ تداولها وتعاطيها فيثبتَ لنا العكس. لكن، بين هذهِ وتلك، يبقى الخوف الأزلي من بياضِ الورقةِ وقودَ سعيرنا الجميل نَحرِقُ بهِ ونَحترقُ "كتابةً أو قراءةً " لا يُبلسِمُ حروقها إلّا 
المزيد .
سهلةٌ ممتنعةٌ هذه الورقةُ البيضاءُ المخططة، تُغري وتُخيفُ في الوقتِ ذاته، بامتدادها القصِّي المرعبِ واكتنازها المُقننِ الفاتن، يُغري بياضُها "كوسيلةِ إنصاتٍ مثالية" للقلمِ المُكتَظِ بقولهِ أن يستدرِجَ بمكرهِ الأسود براءتها البيضاء لإغوائِها بمزاوجةٍ حتميةٍ لا تنشأ كتابة من دونِها، تماماً، كأيّ ذكرٍ وأنثى، كما تُجيدُ الورقة استدراجهُ لِفخاخِها اللذيذةِ لتُتيحَ لهُ أن يرتكبَ فوقَ سفوحِها آثامَ قولهِ ويقذفَ كُلَّ أدرانهِ فوقَ بياضِها الناصع.
وكما تفترضُ الكتابةُ إضاءةً مُسبقةً لقصديةِ القراءةِ تفترضُ القراءةُ كذلك إضاءةً مُسبقةً لقصديةِ الكتابةِ لأنَّ وراءَهما، دائماً، ثمة قارئ يتربصُ بينَ الكلماتِ كوسيطٍ كامنٍ يجهدُ في انتحال كل إرهاصات الكاتب لا يُقنعهُ العُشر الظاهر من جَبلِ جليدِ النصِّ، بل يدُسّ رأسَهُ بحثاً عن تسعةِ أعشارهِ المُغيبة تحتهُ، قارئٌ يعيد إيقاظ المعاني من حتفها الاختياري اللذيذ الذي ساقهُ الكاتبُ إليه، ليبدأ في رحلةٍ عكسيةٍ لتلك التي انتهجها الكاتب قبلهُ إلى ذاتِ الحتفِ المشترك بينهما، وخلفَ تينكِ الرحلتين يُحفَظُ لكلٍّ سلطتهُ وشرفهُ لتظل لعبتيهما كشفرةِ أحبارٍ مخابراتي تختبئ كينونة الكلمات فيها بينَ مَسحتين: مَسحة إذا لامستْ وجهَ الورقةِ غابت تلك الكلماتُ بينَ السطورِ رغمَ وجودها، حتى إذا قَبَّلَتْ مَسحة أخرى شفة الكلماتِ المُمَددةِ أيقظتْها من سُباتها كأميرةٍ نائمةٍ لا توقظها إلّا قبلة من حبيبٍ مُنتظر فيسطعُ نورُها من جديد .
لكن لِمَ يُسقِطُ القلمُ دائماً سوادَهُ فوقَ بياضِ الورقةِ لِنُسميَ هذا الإسقاط كتابةً؟ ماذا لو حدثَ العكس؟ أعني أن يُفرِغَ القلمُ "بياضَهُ" فوقَ "سوادِ" الورقة! هل سَنُسمي هذا الافراغُ حينئذٍ كتابةً، كذلك؟ سألتُ نفسي مرةً هذا السؤال لكني تنبّهتُ مباشرةً إلى أننا - ربما بدافعِ التغيير - استعضنا فعلاً عن قلمِنا الأسودِ بطبشورٍ أبيض يرشُّ مسحوقهُ البارد فوقَ جُثةٍ سوداءَ كبيرة سمّيناها سبورة استبدلنا بخشبها الصارمِ رقة ورقتِنا البيضاء. لكنَّ هذا الوافدَ الجديدَ ظلَّ مُقتصراً على دورٍ محدودٍ تُمليهِ شروط التدريسِ بميكانزميتهِ الإملائيةِ الرتيبة حسب. ومن غير المُقنعِ أن تهدينا تكنولوجيا العصر بديلاً صناعياً يعكسُ هذا الأمر ليعكّرَ صفاءَ تأمّلنا ويشوشَ فعلَ الإبداعِ لمجردِ التغيير ليسَ إلّا، إذ لا يمكن للأبيضِ أن يتركَ واجبَ الإنصاتِ وهو المحكوم بخرسِهِ الجميل ويروي للأسودِ المُعتدّ بفصاحتهِ مُطلقاً. ماذا لو أخطأ قلمُنا الأبيضُ الجديدُ هذا؟ هل نمحو بياضَه؟ الأبيضُ لا يُمحى! لأننا ورِثنا أنهُ معصومٌ من الخطأ ابتداءً. عصمتهُ تلك تجعلهُ مُتأنقاً دائماً، مُتأهباً أبداً للتمظهرِ بأبهى صورةٍ حتى لو مررَ الأسودُ عليهِ براثنه، حينئذٍ يُضفي عليهِ بهاءً مضاعفاً ليبدو 
أجمل! 
ثمة مسألةٌ أخرى لا تقلُ أهمية عن ذلك كلّهِ وهي تكرارُ رعبنا المتجددِ من بياضِ الورقةِ عند الكتابةِ ثم ما تُمثلهُ سطوة القراءةِ وشرفها المفقودتين إزاء سطوةِ الكتابةِ وشرفها الرفيعتين، ذلك أننا نُجيد، بمناسبةٍ أو من دونِها، إضفاءَ هالاتٍ من التبجيلِ الذي يصلُ حدَّ القداسةِ عند التطرقِ للكتابةِ وطقوسها وعاداتها ونحجبُ عن القراءةِ كثيراً من هذهِ الأنوار القدسية إلّا بصائص متقطعة كأنَّ القراءة فعلٌ ناقصُ الهيبةِ والوقارِ لا يُمارسهُ إلّا المتثائبون! والغريب أننا نتجاهلُ دائماً، أو ننسى، أن ننحني إجلالاً لسلام القراءةِ المستتبِ إزاءَ حروبِ الكتابةِ الدامية، إذ نشتبكُ أثناءَ الكتابةِ بنزاعٍ دمويٍّ صامتٍ معَ بياضِ الورقةِ الأنيقةِ التي تسخرُ منا دوماً بخطوطِها العَرَضيةِ المُرتبةِ كحوافِ أنصالٍ قاطعة. لكن، بعدَ أنْ تضعَ الكتابة أوزارَها، ويُفضّ اشتباكنا الصامتِ معها، تخرجُ الورقةُ للقارئ بزيٍّ بهيٍّ صافٍ جديد دونما خطوط وكأنَّ الطباعة تُمارسُ هي الأخرى شروطَ سلامٍ حياديٍّ تُفَضُّ بها النزاعات وتنظفُ أرضَ المعركةِ من كلّ أثرٍ سابق. 
لذا يهمنا هنا أن ننتصرَ قليلاً لشرفِ القراءةِ الضائعِ من دونَ أن يُشمَّ من كلامنا أي اتهام للكتابةِ باستئثارٍ قسريٍّ للمجد أوِ انتحالها دوراً دكتاتورياً اقصائياً، ومن دون أن يُفهمَ، كذلك، أنَّ إعادةَ الاعتبار لشرفِ القراءةِ فيه انتقاصٌ من امبراطوريةِ الكتابةِ المتراميةِ الأطرافِ، لأنَّ القراءةَ مُعادِلٌ مرآويّ للكتابةِ وفيها محايثة إبداعية واضحة المعالم حينما تبثُّ الكتابة شفراتها الملتبسة في الجسدِ النصّي، ولولا المقدرة الفاعلة التي يمتلكها القارئ في استشعار أماكن تلك الشفرات وتتبعها وفكّ رموزها لما أمكنَ فهم الكتابةِ ومراميها، إذ تُعيد القراءة الترتيب الهندسي المكاني والزماني في العمارة الكلامية بمسارٍ معكوسٍ لِما هندَسَتهُ أناملُ الكاتبِ في شقِّ الطرقِ والمسالكِ المُغيبةِ وَسْطَ رمالِ الكلماتِ التي يتشكل منها عملَه النصي، تُعيدُ ترتيبه بواسطة "الفعل الخلاّق الحر لذاتيةِ الذاتِ التي فيها جزء من رؤيات العالم" كما يرى رولان بارت. 
والحقيقة أن مَنْ أعطى القارئ دوراً مُستقلاً عن دور الكاتبِ لفهمِ مُعطياتِ القراءةِ وفقَ منهجه الخاص بهِ في الفهمِ والتقصي والاستنتاج، لم يكنْ مُجانباً للصوابِ في شيء لأنهُ يُعيدُ إسقاطَ إحداثياتِ قراءتهِ من جديدٍ بعد استلامها من الكاتبِ كإحداثياتِ كتابة مع اختلافِ الآراءِ التي تُعطي بعضها القارئ، إلى جانبِ النص، دوراً تفاعلياً مشتركاً كما في نظريةِ آيزر مثلاً "التأثير والاتصال" الذي يرى أنَّ العملَ الأدبي لا يتحققُ إلّا بالقارئ الذي يُشكّل بقراءتهِ واقعاً كانَ مُشكّلاً من قبل بالعملِ الأدبي، متكئاً على منهجية هوسرل في تحليلهِ الإبداعَ الأدبيّ باعتبار أنَّ المعنى جُزءٌ من النص قائمٌ بذاتهِ حتى لو كانَ مُغيباً في متاهاتهِ فهو موجودٌ فيهِ ولا سبيل لادعاءِ خلقهِ من جديد، وهو رأيٌ يتعارضُ مع آراءٍ أخرى تُعطي القارئ فقط الدور القيادي في عملية تأويل النص الأدبي وفق الفهم الذاتي له كنظريةِ ياوس مثلاً "التلقي والتقبل" باعتبار أنَّ المعنى يظلُّ وَقفاً على ما يخلقهُ القارئ من فهمٍ للاشكاليات التي تطفحُ على السطحِ أثناءَ القراءةِ وهي بمُجملِها آراءٌ تتكئُ على آراءِ هيدغر في هذهِ المسألة .