أسباب مجهولة

الصفحة الاخيرة 2020/02/11
...

حسن العاني 
لا أكاد أعرف أحداً مثل الاستاذ (محمد السالم)، وأنا ادعوه (الاستاذ) لأنه فعلاً كذلك، حيث امضى قرابة 36 سنة في التدريس الجامعي قبل احالته على التقاعد، وميّزة هذا الرجل تكمن في تركيبة شخصيته التي غلب عليها الجد حتى انسته الابتسامة، ولكن هذه (الجديّة) لم تجعل منه شخصاً (مزعجاً) أو تبتعد به اخلاقه الكريمة وطيبته وتواضعه.
تفرّد السالم- الذي عبر عقده السابع – عن غيره بهواية غير مسبوقة ملكتْ عليه حبه واهتمامه، وتحوّل الافراط بها الى نوع من الهوس، ومع ذلك يمكن القول باطمئنان، إنها هواية لا تخلو من فائدة لأنها تنطلق من قاعدة علمية احصائية، فالرجل لا يترك (شيئاً) من حوله الا وتابعه بحرص شديد وأتى على خلفياته وتفاصيله، وهو في ذلك كله لا يُفوّتُ معلومة كبيرة او صغيرة، الا ودوّنها في سجل خاص بهواياته، ولذلك ضمّتْ مكتبته العديد من السجلات، كل واحد منها ينتهي بفهرست يتضمن اشارة الى اسم الموضوع ورقم الصفحة!
من بين تلك الاحصائيات التي تناولتِ الحقبة التي اعقبت التغيير في 9 /4 /2003 إن (عدد الفضائيات منذ ابتداء بثها بلغ 149 فضائية) ودوّن أمام كل واحدة اسمها ويوم افتتاحها ويوم توقفها، مع الاشارة الى طبيعتها (حكومية او ممولة من حزب او من الخارج او مستقلة) ولم يفته التلميح الى ان مفهوم (مستقلة) غير واقعي، ولكنه لم يستطع التوصل الى الجهة الممولة، وفعل الشيء نفسه بالنسبة للاذاعات والصحف والمجلات... وكان شديد الحرص على ان يذكر اسم اول مسؤول ومن اعقبه وأعقبه وهكذا يؤشر امام كل مطبوع او اذاعة او فضائية... ومن الفضائيات والمطبوعات الى فصل (هو الاصعب في تقديري) خاص بالكتل والاحزاب والتيارات والائتلافات، مع هامش ملحق بالأسماء الثلاثية للنواب الذين تنقلوا بين الاحزاب والكتل وعدد المرات التي تنقلوا فيها واسباب تنقلهم!!
هذه وغيرها العشرات من الارقام والجداول الاحصائية انهكت الرجل الذي لم ينشد من ورائها مردوداً مالياً او مكافأة الا (اشباع) هوايته.. واعتقد جازماً بأن هذا الانجاز لمن اطلع عليه يوفر قدراً عظيماً من المعلومات العلمية لأغراض تاريخية وتوثيقية، مثلما يوفر قدراً من المتعة، من ذلك على سبيل المثال لا الحصر (عدد التصريحات التي ادلى بها كبار المسؤولين او القوانين والتشريعات التي اصدرتها الحكومة من دون ان يتم الالتزام بتصريح منها او قانون او تشريع).. على ان اغرب ما قام به الرجل يتمثل في احصائية تناولت اسباب الوفيات في العراق من 1 /1 /2003 لغاية 1 /1 /2020، ووجه الغرابة يكمن في (اسباب الوفاة)، وبتجاوز للكثير من التفاصيل فهناك نسبة 38 % من الوفيات تقف وراءها "القاعدة وداعش" والطائفية والانتحار والجلطات وتقدم العمر وتردي الخدمات الصحية..الخ، مقابل 62 % من الوفيات لاسباب مجهولة، ولكن السالم بعد جهود مضنية توصل الى السبب الحقيقي، وقد لخّصه بالعبارة التالية: ماتوا من الحسرة والقهر!!