لم يكن بول غوغان، في عام 1878، سوى سمسار ناجح في البورصة في الثلاثين من عمره ولديه فقط اهتمام هاوٍ جزئياً بالفن. ولم يكن هناك شيء خاص فيه يشير إلى أنه سيتطور إلى فنان ثوري مبدع، وأن لوحاته ستباع، في يوم من الأيام، بمئات الملايين من الدولارات
كان يعيش آنذاك في الدائرة التاسعة من باريس، وهي حي فني فيه مقاهٍ يتردد عليها الفنانون الفرنسيون البارزون في ذلك الوقت. وكان أكبر تأثير على غوغان هو للرسام الانطباعي الشهير كاميل بيسارو، الأكبر سناً منه بعشرين عاماً. وقد نشأت صداقة بينهما، وراح غوغان يرسم في بيت بيسارو كل مساء أحد، في إرشاد خالٍ من التكلف تماماً. ولعقدٍ من الزمن، أخذ غوغان يضاهي بيسارو في أسلوبه الانطباعي الناعم بضرباته اللونية الهائجة المبهمة. وبعدها التقى غوغان الفنان الغريب عن البلد فنسنت
فان كوخ.
وبتأثيرٍ من اللون الجنوني لفان كوخ والاهتمام بالرسومات الخشبية اليابانية، راح عمل غوغان يتغير سريعاً إلى طريقة شخصية جديدة متميزة عن معلمه القديم العجوز بيسارو. وقد تأثر غوغان كثيراً برؤيته فن فنسنت فان كوخ وصارت هناك رابطة إبداعية شديدة بين الرجلين، حتى أنهما عاشا معاً لمدة شهرين، إلى أن أُصيب فان كوخ بالجنون وقطع أذنه.
لكن ما الذي تعلمه غوغان وجعله يغيّر تفكيره وعاداته؟ ما الذي حصل له عام 1888؟
كان ذلك اقتناعاً عميفاً جديداً تولّد لديه بأن فنه ينبغي أن يكون بخط ولونٍ قاطعين decisive . وكفى غشاوات إنطباعية القوس قزح. ويمكن رؤية ذلك التحوّل الدراماتيكي في اللوحات التي تغيّر فيها أسلوب غوغان تماماً من عام 1887 إلى عام 1888، مكتشفاً نظرة جديدة لم يسبق رؤيتها في الفن أبداً. وقد نُقل عنه قوله عام 1888 «كيف تَرى هذه الشجرة؟ هل هي خضراء حقاً؟ استعمل الأخضر إذاً، الأخضر الأكثر جمالاً لديك على لوحة ألوانك. وذلك الظل، هل هو أزرق نوعاً ما؟ لا تخشَ أن ترسمه أزرق قدر
المستطاع.»
أما بالنسبة لبقية حياة غوغان الفنية، فسوف تتسلّل أصداء أيامه مع أستاذه القديم بيسارو إلى مناظره الطبيعية، لكن الجوهر سيكون التزاماً قوياً، جديداً باللون والخط المحدَّدين جيداً. فإذا ما رُسم وجهٌ أبيض بلون العظام أو خط على نحوٍ صارم، كان غوغان يقول لكل نقّاده: «إني أُريكم التزامي الكامل ، أيها الجبناء.»
ولقد كان أسلوبه بالكاد مقبولاً عند موته لكنه أصبح، على مدى المئة سنة التالية، مشهوراً في عالم الفن. وكان راضياً إلى حدٍ ما لنشأته كرسّام، وهو يقول «إن الفن إمّا ادّعاء و إمّا ثورة.»
وهناك درسان في قصة غوغان ينطبقان على أي شخص مبدع يعمل في مجال الموسيقى، أو الكتابة أو أي شكلٍ فني. الدرس الأول: عندما ترى شيئاً ما جديداً وقوياً يمكن أن يفيدك، فلا تظل متشبثاً بالماضي. لا تدع العادات القديمة تبقيك في الوراء. وقد كان غوغان مستعداً لترك أستاذه، بيسارو، والمضي قُدُماً للمخاطرة لإنجاز شيءٍ ما جديد، وهذا عمل ثوري. أما الدرس الثاني، فهو القوة السحرية تقريبا
ً للالتزام الحاسم.
ونحن نعيش، اليوم، في زمنٍ تتخذ فيه الكثيرَ من القرارات لجنةٌ أو جماعاتُ اهتمام أو تجريبٌ يستميل إليه شعبية واسعة. وقد ينفع ذلك المسوّقين، لكن حين يتعلق الأمر بالفن فإن الصوت الفردي القويّ ليدٍ مبدعة تتخذ قراراً ملتزماً (صحيحاً كان أو خطأً) هو أهم كثيراً من أية ترضيات مزوَّقة.
عن / Medium