عالم موحش في ليــل صـــاخــب جــداً

ثقافة 2020/02/11
...

يوسف عبود جويعد
تعتمد الأفكار والثيمات والأحداث التي تتناول عالم الوحدة، على الشخصية الواحدة التي تقوم بإدارة دفة الأحداث، من دون أيّة مساهمة أو مشاركة في نقل المبنى السردي، وكذلك على قدرة الروائية في السيطرة على اهتمام المتلقي والاستحواذ على متابعته الأحداثَ من خلال المعالجات الفنية التي توظف من أجل ذلك.
في رواية (ليل صاخب جداً) للروائية هدية حسين، تقدم لنا هذه الثيمة من خلال بطلة هذا النص (ياسمين)، التي تجاوزت الأربعين عاماً، حيث تعيش الوحدة بعيداً عن أجواء الأسرة، لنكون معها وحدها مع سيل عارم من الذكريات والتداعيات والانثيالات التي تصب في تعزيز ورسم ملامح الشخصية، مع فرض الأدوات السردية التي تساهم في إظهار حياة الوحدة في ظاهر الحياة، وفي باطن روحها وعقلها وتصرفاتها، وحتى محاولاتها الخروج من تلك الأجواء التي تحدد حريتها وتبعدها عن الناس: 
( كل شيء لديّ هادئ وبطيء وأقرب للصمت، بهدوء أطبخ، وببطء شديد أتناول طعامي، وببطء أيضاً أنظف أو أرتب البيت، من يركض ورائي؟ ألَا يكفي أن السنين تتسرب بسرعة من بين أصابعي وعلى مرأى الجميع؟ لا أحد ينتظر مني تقديم الطعام أو أي شيء آخر، الزوج لم يعد موجوداً، والابن الوحيد آثر الاستقرار في كندا، بلد الشتاءات القاسية، لا أحد سوى نفسي التي صادفتها بعد تيه، فلماذا العجلة، 
ولماذا الثرثرة؟) ص 12 
وهكذا فإن الروائية أشارت من خلال هذا المشهد الى المسارات السردية، التي سوف نمر بها ونحن نرحل مع عالم الوحدة ووحشة النفس، إذ إننا سوف نقف على الأسباب التي دعتها الى أن تكون مستسلمة لهذه الوحدة، وهو ما حدث في هذا البلد من تغيير نحو الأسوأ، الذي أضر بهذه الأسرة، بين زوج انتقل الى الملكوت الأعلى، وابن هاجر الى كندا لأن صديقيه عمر وعلي تعرضا الى خطف من رجال ملثمين، ثم المطالبة بالفدية التي بلغت مئة الف دولار، وبعد تسليمهم المبلغ أعادوهما جثتين مقطعتين موضوعتين بأكياس نايلون أسود، الأمر الذي وضع رضا ابنها الوحيد، في حالة نفسية سيئة، لا يمكن الخروج منها إلّا بالهجرة والهروب من أجل إنقاذ نفسه، وهكذا تعيش ياسمين وحيدة محاصرة بهذا العالم الموحش الذي ندخله خطوة بخطوة من أجل أن نكون معها، ونعيش بين تداعياتها وذكرياتها وحياتها التي تعيشها:
(أنا التي شجعته على الخروج من البلد حفاظاً عليه، لقد بقي لأكثر من عشرة أيام بعد مقتل صديقيه في حالة بكاء هستيري، امتنع عن تناول الطعام، وكان يفز ليلاً ويصرخ، كدت أفقد ولدي في تلك الأيام المرعبة التي اختفى فيها القانون فصالت العصابات وجالت، وهربت الأحلام وماتت الأمنيات وتسيد الخوف وتقبحت الحياة وتقحّبت، فعملت بكل ما أستطيع لإخراجه من بين أنياب الشياطين) ص 18 لقد عمدت الروائية هدية حسين، في تعزيز الأحداث التي من شأنها أن تهيئ الأجواء التي تساهم في تعزيز عالم الوحدة ووحشة النفس، بتفاصيل ولغة سردية منبثقة من أعماق الروح بتداعياتها وهي تنطلق متوهجة مؤثرة شفافة هادئة تتدفق منها تلك الذكريات التي عاشتها، قبل أن تدخل هذا العالم، ومن أجل أن ترتبط هذه الأحداث التي تخص ياسمين ووحدتها القاتلة، بأحداث تكون ذات صلة بحركة السرد حيث ننتقل الى حكاية سراب التي التقت فيها صدفة في سوق الغزل عندما خرجت للتنفيس عن وحدتها، والبحث عن قطة سيامية تخفف وحشتها، وتنشأ علاقة من نوع خاص بينهما، فتزورها سراب في بيتها وتساعدها في إعداد الطعام والشاي والقهوة ويتبادلا أطراف الحديث، وتغادر سراب عائدة الى البصرة حيث تسكن، وبعد مضي فترة من الزمن تتصل مديحة أخت سراب طالبة من ياسمين الحضور الى محافظة البصرة لأن سراب تطلبها لأمر مهم، وهنا تضيف الروائية أدوات سردية تدخل ضمن مبنى هذا النص السردي، حيث تدخل رواية فتاة القطار للكاتبة البريطانية بولا هوكينز، ضمن مبنى هذا النص في توظيف فني يؤكد انسجام هذه الرواية مع الأحداث، وكذلك الميتاسرد الذي يدخل من خلال الدفتر الذي كتبت فيه سراب مذكرات مهمة وطلبت من اختها مديحة أن تسلمه لسراب وعليها أن تقرأه ثم تمزقه، وبهذا فإن عملية البناء في هذا النص رغم قصره حيث بلغت عدده الصفحات مئة وعشرة صفحة، قد تضمن هذه الأدوات السردية، ليكون حالة مشاركة مع رحلتها في عالم الوحدة، وتلتهب الأحداث وتخرج من حبكتها الى تأزمها من خلال الأحداث التي دارت لسراب وزوجها والأسرار التي اكتشفت من خلال تلك الأحداث التي تضم الكثير من المفاجآت ونبقى مع حياة ياسمين وكذلك حياة صديقتها سراب: 
(أرفع نظري من شباك المطبخ الى الحديقة، أرى ظلالاً مبهمة، كأنها أشباح تتحرك بين الأغصان، أو ربما هي لعبة الرياح
مع الشجر) ص 109 
وهكذا فإن عملية بناء هذا النص تنوعت من حيث أدواتها، إلّا أنها خدمت موضوعة وفكرة وثيمة النص، الذي ينقلنا الى عالم الوحدة وعصف من الذكريات تحوكها ذاكرة في خلوة موحشة. ليكون ليلها صاخب جداً.
*من اصدارات الذاكرة للنشر والتوزيع بغداد – الصرافية – مجاور الجسر الحديدي لعام 2019.