جواد علي كسّار
في صدر أبيها فيضان شوق إليها، وحنان لا يمكن أن يزول: «فاطمة قلبي وروحي التي بين جنبيّ»، وفي قعر قلبها عشق يلتهب لأبيها الرسول؛ «فداكِ أبوكِ يا فاطمة”.
قد تنسى من حياتها كلّ شيء، لكن لا تنساه أبداً، فحين كانت تهتز في مرض وفاته بأشواق خائفة وقلق توّاق؛ بكت ثمّ تهلل وجهها ببشارة نبوية: «أخبرني أنني أوّل أهل بيته لحوقاً به، وأنه لن تطول المدّة لي بعده حتى أدركه، فسرى ذلك عني”!
تذكر من عاشت معها في بيت أبيها: ما رأيت من الناس أحداً أشبه كلاماً برسول الله من فاطمة، كانت إذا دخلت عليه رحّب بها وقبّل يديها، وإذا دخل عليها قامت إليه فرحبت به، وقبّلت يديه.
مذ أن شعّ بمولدها الوجود، بالشذا الرقيق العطر، وفي سلوكها يتجلّى معنى الجمال الممتنع، فهي المتعبدة الضارعة في المحراب: «إن ابنتي فاطمة ملأ الله قلبها وجوارحها إيماناً، ففرغت لطاعة الله». ومع ذلك ما كانت منصرفة إلى نفسها، بل تُقدّم عليها الآخرين، على ما يحدّثنا ولدها الحسن: «سمعتها تدعو للمؤمنين والمؤمنات وتسميهم، وتُكثر الدعاء لهم، ولا تدعو لنفسها بشيء، فقلت لها: يا أمّاه، لم لا تدعينَ لنفسك كما تدعين لغيرك؟ فقالت: يا بني، الجار ثمّ الدار”!
يدخل النبي يوماً إلى منزل ابن عمه وابنته، وهما يطحنان في الجاروش، فيسأل: أيّكما أعيى؟ فيبادر علي: فاطمة يا رسول الله؟ فقال لها النبي: قومي يا بنية، وجلس النبي موضعها، يواصل طحن الحبّ مع علي.
وفي دار أمير المؤمنين كانت سطعة النور التي تبعث البهجة في قلب علي، حين يدركه الشعور بالانكسار ويسري إلى قلبه من هضم الأمة حقّه، لتهدّئ ما كان يهيج في نفسه، وما استكنّ في قلبه من خفيّ الأوجاع، فكان يفرّج عن نفسه بالنظر إليها: «ولقد كنتُ أنظر إليها، فتنجلي عني الغموم والأحزان”.
يتزاحم على باب معرفتها بكلّ الأزمنة، كثير من أهل الضرّ والبلوى، والجمع الضارع المحتشد ينتظر أن تنشر عليه بنت النبي، من هباتها المخزونة التي لا تعرف الحدود؛ ظلّها ما يزال يستطيل يتفيأ به الجميع، ولا غرو: «فعلى معرفتها دارت القرون”.
لقد أراد النبي لمجتمع المسلمين، أن يتحرر في قضية المرأة، من براثن الوهدة التي التقمته في ظلام الجاهلية، وأن يتطهر من عادة وأد البنات، تلك الثقافة التي كانت تتقيح من كينونة المجتمع الجاهلي، وتسيل كأنها قرحة نجسة متعفنة، فخرج ذات يوم وقد أخذ بيد فاطمة، وقال: «من عرف هذه فقد عرفها، ومن لم يعرفها فهي فاطمة بنت محمّد، وهي بضعة منّي، وهي قلبي الذي بين جنبيّ”.
من روائع ما قرأت لعلامة بغداد الآلوسي، قوله في «روح المعاني» تعليقاً على الحديث، إن: «البضعية من روح الوجود، وسيدّ كلّ موجود، لا أراها تُقابل بشيء”.
ذكرى مولد فاطمة، هبة لنا من فوق، كأغلى ما تكون الهبات.. إنا أعطيناك الكوثر!
لكن هذه الهبة هبطت علينا هذه المرة، أسطع من ذي قبل وأنفذ.. سلام هي حتى مطلع الفجر!