يوماً ما عبر الزمن الذي لا يحصى، والحكاية على ذمة الرواية، هو ابن شداد، عنترة العبسي، ذاكرة الأمة وسيفها الذي ذاع صيته بين البوادي والحواضر، لكنه ما زال أسير الضرع والرعي والعبودية، لأنَّ أمّه زبيبة أمَة سوداء، ولأنَّ والده شبيه بثلاثة أرباع الزعماء العرب على مر التاريخ، متغطرس أجوف عنصري، لا يحسن مسك الزمام، ولا قيادة الشعوب ولا ركوب الخيل، بقدر ما يجيد صعود النساء ليلاً، وامتهان إنسانيتهن نهاراً ثم لا يعترف بأبوة ولا أمومة ولا ولد!
قلبي على عنترة العاشق، سيف الأمة الذليل، وثمة من يسأله: يا أيها الذي كره الكماة نزاله، أنت المتمكن من أخذ (عبلة) بالقوة أو الحيلة أو التدبير، فهل اعتراك وهنٌ أم أصابك عجزٌ؟ يقول الراوي: نظر العبسي الى وجه محدثه وتأمل كلامه ثم قال: (كل شيء يؤخذ بالسيف إلا الحب)، وما كان يدري أنَّ زمناً يأتي على زمنه فيؤخذ كل شيء بالحب المجنون، المال والسلطة والكرسي والجاه، إلا الحب فإنَّه يؤخذ بالسيف!!
في مساء شتائي، حيث تتراقص الأضواء تحت دغدغات شباط، قرر القديس العاشق أنْ يغادر روما وقد تخضبت لحيته بدماء المواجهة، كان سيف الامبراطور يتسلى برقبته، وفي عينيه غبش الحزن لكنَّ قلبه طافحٌ بالأمل، فيا لهذا الرجل كيف اجتمعت له خصومة الفناء، وإرادة الحياة (وتلك هي طريق الإنسان الى الخلود)، كذلك خاطب فالنتاين نفسه مزهواً، وهو يطوف سائحاً بين أسواق المنصور والكرادة والأعظمية وقلوب العشاق!
ثوبه.. هل لاحظتم كيف تضرج بالأحمر وحقد الامبراطور ورائحة التحدي، وما كانت أمّه أمَة سوداء، ولا كان أبوه أبا عنترة، غير أنَّ حقد الأباطرة واحدة، وفالنتاين ما زال يتنقل من مولات بغداد، نزولاً الى عبق البصرة، صعوداً الى عيون كردستان، وفي لحظات الانبهار من حضوره يتساءل: هل حقاً هذا هو أنا؟ مستغرباً قديس روما إذ يري اسمه وروحه تضيء أوراق الأسطورة الذهبيَّة، هل هذا هو أنت يا فالنتاين.. ما زال يتساءل وكيوبيد ورود حمر وبطاقات ملونة وهدايا مزدانة برائحة الوفاء للأصدقاء والأمهات والزوجات، أما الحبيبات فهن المقدمات، لأنهن موطن اللهفة والنجوى والوجع الشفيف، ويا عيني على نون الحبيبة! ومنتشياً كان المضرج، لأن سيف الظلم استحال على رقبته زنبقة للعشاق، من ايفل فرنسا الى حدباء الموصل ومن زقورة أور الى المائل في إيطاليا ومن رأس الرجاء الصالح الى رأس الملوية وذلك هو قانون العصور كلها: الحرب لا توقف الحب.. ولكنَّ الحب يوقف الحرب، عندها مضى القديس الى المستقبل ونام قرير العين بانتظار أعياد وأعياد قابلات للحب، ومضى عنترة الى التاريخ ونام جريح الفؤاد حيث لم يذكر حبه الموؤود أحدٌ، وتلك هي الحال كذلك على أيامنا هذه: سلاطين الأمة يستحون من الحب ولا يتحرجون من الفاحشة!!