استعارات جيولوجية تزيد من سعير اللغة
ثقافة
2020/02/15
+A
-A
د. سمير الخليل
صاغ الشاعر «زعيم نصار» قصائده التسع في مجموعته (الحياة في غلطتها) الصادرة عن دار الروسم – بغداد 2015، في ثلاث نسخ هي على التوالي: نسخة ثالثة، نسخة ثانية، نسخة أولى. ولأنّها تتمحور حول مركز واحد، فالنسخ الثلاث بقصائدها التسع هي بمثابة قصيدة واحدة، لها مراكز عدة تدور حولها كل صيحات الألم وتشنجات المعنى بجملة اسمية طويلة. المركز الأول يتموضع في نهاية القصيدة الأخيرة، وكأن الشاعر أراد أن يمتحن صبرنا ونحن نلهث لمواصلة القراءة، محاولين الوصول إلى المعنى، لحن الخطاب، العلامة الأبرز ، وتلويحة الفنار التي تمنحنا إشارة الأمان
والتلويحة الأخيرة جاءت في شكل: ((أهذه رحلة أم حرب؟/ تدحرجت من قمة الجبل/ إلى سفوح الجنون/ معي مشعل الحرية، أحصي تخوم الخيال، وأقصد غيمة الله التي غطّت قبر القتيل، لم أرتجف، لكن رأسي ارتطم بجثة أخي، ارتطم برأسه المقطوع، وهو يتدحرج نحوي، بعيداً عن جسمه الراكض إلى الأمام. دفنت الضوء تحت الرمال، وهذين: صرت أحكي بلا معنى)) (ص
73).
هذا ما وجدناه في القصيدة الأخيرة من "النسخة الأولى".
أما ما كشفناه في القصيدة الأخيرة من "النسخة الثانية" فهو مركز يتوضح رويداً رويداً مثل جبل الجليد العائم، قمته الصغيرة ظاهرة للعيان، لكن قاعدته الضخمة غاطسة تحت الماء.
هذا الجبل شكل مركزاً آخر مقابل المركز الأول، يحاول أن يماثله ويكون نداً له: ((أصابنا في طوفانك الغثيان/ وجدناك في غاية أحراش، فتعفنت الدموع، وفاضت الأيام، هنا قلتها: سأرمي صورتك في بركة الفقهاء، يزخرفون حواشيك بماء الذهب، يربّون ذيلك السمين، يحفرون حضرتك، ويتباكون على حصانك المخدوع، يقودونه إلى تخوم الخوف والغيب/ قالوا: كان ضحية أخرى بين أذرع اللعبة السرية في البقاء من أجل الصراع، فرموا أجسادهم حطباً للنيران، واقتربوا من القتلة القدامى. رفعوا راية الرأس المقطوع تحت أسئلة الكتاب وجرائمه، وجاؤوا من لحظة السروال القديم، جاؤوا شهوة الكلام. مع هذا تكفيهم هذه اللعبة يقيمون لها الكمائن ويشيّعونها، تقيم لهم فخ الغياب بكتابها السمين، غادروا المكان وأحاطوه بسور من الظلام، وبقوا نائمين دهراً في الكهف ينتظرون الخيول)) (ص58 وما بعدها).
وفي القصيدة الثالثة – الأخيرة مع "النسخة الثالثة" يبزغ المركز الثالث كأنّه الرؤيا من وسط التخبّط والعماء، ويصدح صوت "أنا الشاعر" بوضوح وصفاء معلناً خياره الأخير، رهانه النهائي على الملأ بعد أن توضحت اللعبة وانكشف السر وافتضحت الأدوار واكتملت دائرة المصائب: ((وفي هذا رأيت ثلاث مصائب صارت مصيري، قرأت، قرأت فيها بلادي التي تشظت، بلادي تشظت، بلادي، بلادي لك حبي)) (ص34).((فولجت في سرداب أبي وهو بلا باب، تهيبت ظلامه انتابني الرجف، ارتجفت حتى انتبهت، عندها نازعتني نفسي، فنازعتها المحبة.
هممت حتى اقتربت، أخافتني صورة على الجدار تحتها كلمة واحدة شربتها كلها، فصرت أنا العاشق الذي جنّ بها، انتقيتها لا غبار عليها، هي كيس من الحروف، بلادي، بلادي بأحجارها، وأشجارها، وحيواناتها، وأنهارها، وعالمها، وترابها، وإنسانها، وحارسها، بلادي، بلادي حملتها على كتفي ومضيت)) (ص35).
هنا اكتمل المثلث بمراكزه الثلاثة لتشكل قصيدة واحدة حتى وإن اختلف تسلسل النسخ من الثالثة إلى الأولى أو تمددت القصائد إلى تسع، فالجملة الاسمية ممتدة من الغلاف إلى الغلاف بنفس واحد، واحتدام محسوب بدقة. والمراكز الثلاثة يقابل بعضها بعضاً ويشير إليه، وكأنها تتبادل الاتهامات وتتنازع التبعات.
هل القصيدة الطويلة التي نحن بصدد مقاربتها رحلة أم حرب ؟
هذا السؤال جاء في فاتحة المركز الأول. وجوابنا هي رحلة حرب، فثمة زلزال حدث في البلاد، وشمل كل الجغرافيا الوطنية، وتغذى هذا الزلزال من المخيلات الاجتماعية والأسطورية بنوع من التراجيديا والهوس والخشية. الزلزال ظاهرة طبيعية على غرار الرعشة في جسد الكائن الحي (إنسان أو حيوان)، طبيعي وعادي أن يتخلّص الجسد من فائض الشحنات بمعنى تحرير الطاقة الزائدة التي تغمر أوعيته وأعصابه وأعضاءه الأُخر، والأرض كائن حيوي تتحرّر أيضاً من الطاقات المتجمعة في باطنها، وهذه الظاهرة تتخذ صورة التشكيل الجيولوجي باحتكاك الصفائح التكونية وتداخلها. لقد خلّف هذا الزلزال جثة رجل برأس مقطوع يتدحرج نحوي (نحونا) ، بعيداً عن جسمه الراكض إلى الأمام. صحيح أن الزلزال خلّف آلاف الجثث، ولكننا كما النص سنركز على جثة واحدة هي (جثة أخي) وكيف السبيل إلى الأخذ بثأرها، وعدم نسيانها.
في المركز الثاني المتحصل من "النسخة الثانية" يحدث أيضاً زلزال يماثل الزلزال الأول في القوة والدرجة وتكون حصيلته طمر النظام السياسي الأول وإزالته بالكامل ليظهر على أنقاضه نظام آخر، كان يعارضه في السابق ويختلف معه في كل شيء، رجاله فقهاء يزخرفون الكلام بماء الذهب، ويربون الذيول السمينة، يستخرجون الجثث من المقابر الجماعية، ويتباكون عليها تحت كاميرات الإعلام الفضائي. في الظاهر رفعوا راية الرأس المقطوع، وفي الباطن اقتربوا من قتلة الأمس واتفقوا معهم على تقاسم المصالح والمغانم.
غادروا الواقع المر بعد أن أحاطوه بأسوار من الظلام، واحتموا داخل مواقع السلطة شديدة التحصين بعد أن كانوا يتعففون في مواقعهم القديمة في قلب غابات الأحراش.
إذن، هي لعبة الضحك على الذقون. الزلزال الأول أكل ما أكل، والزلزال الثاني كذلك، وضاع الناس والوطن ما بين زلزالين.
هنا تبرز ضرورة المركز الثالث الذي إنوجد في "النسخة الثالثة"، ليكفر بالمركزين ويوجه لهما أصابع الاتهام والخيانة. فلا خيار ولا حل إلا بالرجوع إلى الجذور، إلى سراديب الآباء، إلى الماضي المشرّف واستمداد القوة منه. لا خيار إلا بالاصطفاف مع الوطن ومع كل شيء فيه من بشر وحجر، حيوانات ونباتات، أنهار وسهول وجبال وصحارى يجب فعل شيء ما، ينبغي البحث عن زلزال جديد يجتث كل ما خلفته الزلازل السابقة، غير بعيد عن عيد الله –جل في علاه- الحدقة المراقبة الدائرية التي لا تخفى عنها خافية:
((البياض تكرّسه الأبدية، السواد يكرّسه الزوال)) (ص65).
ومعكوسها ((الأبدية يكرّسها السواد، والزوال يكرّسه البياض)) (ص68).
إنها إحاطة الغائية العلوية بكل شيء، إحاطة احتوائية شاملة، فليس غريباً أن يصف الفلاسفة الرواقيون الله على أنه حدقة محايثة للعالم تحيط علماً بكليات الأشياء وأجزائها، وهذا المعنى (الإله بوصفه حدقة) يميز أيضاً بعض الفلسفات الصوفية كما هو الحال مع "ابن عربي" أو "ابن سبعين" في الثقافة الإسلامية، في رسالته إلى الإمام الرازي يكتب الشيخ "محي الدين بن عربي" ((اعلم أن العالم بمجموعه حدقة عين الله التي لا تنام)) * .
في نصوص "زعيم النصار" وجدنا أن شعريته ترى في اللغة بركاناً تثور منه الحقائق، الحقائق هي فوران أو ثوران وليست بروتوكولات أو تصنيفات، بهذا المعنى يستعمل "نصار" استعارات جيولوجية في الحديث عن سعير اللغة، ودعماً لهذا الرأي نؤكد أن كل ما يتضمن أو يرد من النصوص الأدبية الإبداعية له وظيفة سياسية واضحة للعيان وليس مجرد مفاهيم مثالية أو تهويماتمخيالية أو أطروحات تنظيرية أو سرديات موازية، فجثث القتلى هي أشباح تحوم في الأجواء بالقرب منا ما دمنا أحياء، والأشباح مثل "السوبرنوفا" نجوم انطفأت منذ مئات السنين ولا تزال تضيء ليالينا. كل الذين رحلوا لا تزال أشباحهم تعود ونجومهم تتلألأ. أنت هناك (يا أخي الراكض إلى الأمام بدون رأس) في الهناك تتألق أو في الجوزاء.
* يراجع: رسائل ابن عربي- رسالة الشيخ إلى الإمام الرازي، حيدر آباد، 1948، ج1، ص14