جواد علي كسّار
هاجس قرع فؤاده بليل، فأوحى إلى عقله أن يجرّب الكتابة لأول مرّة في حياته، مرّت ساعات من الليل لا يعرف كم هي، حين تمخضت معاناته مع القلم عن ولادة المقال.
لسعة في داخله لا تدعه يستقرّ، يجوب في أرجاء شقته الباريسية المتواضعة، ودويّ في نفسه يصرخ، ما دفعه إلى إيقاظ زوجته في ليل باريس الهادئ، وراح يقرأ عليها مقاله الذي سطره، وهي تنصت إليه بعناية ومودّة، وتُظهر على مُحياها أهمية أفكاره، حتى إذا ما انتهى من ملحمته الليلية، بادرته للقول من فورها: «لا أعتقد أنه من تحريرك، بل أراه
من وحي السماء»!
بذكاء هذه الزوجة، وإحساسها الإنساني العميق بالمسؤولية، وقدرتها الفائقة على اقتناص الفرص، فجّرت لنا طاقة عقلية جبّارة، وما علمت أن كلماتها هذه أرّخت لولادة كاتب من أعظم مفكري الحضارة في العالم الإسلامي خلال قرن؛ مالك بن نبي!.
لو أن زوجة مالك بن نبي قالت له غير هذه الكلمات المحفّزة له بقوّة، لتغيّرت تجربته، ولو أنها قمعته بالإهمال وجبهته بعدم الاكتراث، لما تحوّل إلى رقم متميّز في تحليل مشكلات النهضة في العالم الإسلامي، عبر التفسير الحضاري، ومن خلال منظومته في الفكر الحضاري التي نيفت على العشرين كتاباً، وأضعاف ذلك من المقالات والندوات. هذه قصة مالك بن نبي وزوجته.
وقصة أخرى من العراق، سطعت مشاهدها الوضيئة قبل أيام، من صالات الجامعة المستنصرية ببغداد، وهي لم تخب بعد.
لقد كان كلّ شيء يمضي عادياً في حياة محمد مالك، وهو يطوي طريق المعرفة صوب نيل درجة الدكتوراه في الأدب العربي، عندما هاجمه طارئ مرضي وبيء، ومرض غادر لا يستسلم ليس كبقية الأمراض. راح جسمه يتهاوى تحت الضربات الموجعة لجرعات الكيميائي، لكن عقله بقي يقظاً تحت إرادة ثابتة لتحقيق الطموح، وإتمام بحثه ونيل المرتبة العلمية.
هنا برز دورها إذ لم يكن له أحد سواها؛ فكانت إلى جواره تطببه بتصليب إرادته من الداخل، وتُخفّف عنه مواجع المرض وآلام نوباته المبرحة، لا تشكو ولا تتبرّم، وكانت ترى أن من ضلّة العقل وعمى البصيرة أن تضعف أمامه وتستسلم. الأهمّ من ذلك أنها مضت تشجّعه دون انكفاء، تناغي عمق كينونته بمودّة قارّة، وأُنس نفيس، وتفتح أمامه مغاليق
الطريق إلى المعرفة !.
ركبا كلاهما جُماح إرادة متحدّية، إلى أن حدّدت الجامعة المستنصرية موعداً للمناقشة، فجاءت زوجته تحمله إلى أساتذة قاعة الوكيل على «نقالة» المرضى، مع لُمّة من زملائه وأصدقائه، بعد أن تآكلت قواه بفعل الكيميائي، ولم يعد يقوى على الجلوس، فتمدّد على أريكة أُعدّت في قاعة المناقشة خصيصاً له.
بجسد مبتلى بالسرطان القاتل وعقل يقظ أثار دهشة الجميع وإعجابهم، وقف الباحث العراقي محمد مالك، مدافعاً بمثابرة وجلد عن أطروحته: «البنى السردية في خزانة الأدب للبغدادي» ليقرع أسماع الجميع قرار لجنة المناقشة، وهو يعلن فوز محمد مالك بشهادة الدكتوراه بتقدير جيد جدا ً!.
زوجته الحاضرة في القاعة، لم يرَ أحد وجهها، بعد أن غطته الدموع، واللجنة تسجّل في آخر جملة لها: محمد مالك تجربة من العراق، ينبغي أن تُحتذى !.