حسن العاني
يولد ابن الهور وهو يعرف السباحة، ويولد ابن الصحراء وهو يشم رائحة المطر في الغيم، ويولد ابن الريف خبيراً في الزراعة، اما العراقي فيولد سياسياً، هكذا علمته الحياة، وفرضت واقعها المرير عليه، منذ قامت مدن العرق قبل اكثر من الف سنة، صراعات وحروب واحزاب متناحرة وانتداب واحتلال ومقاومة ونضال وانهار من دماء، اشهر قصائده التي خلدها الشعب كانت في السياسة، ولم تكن السجون والمعتقلات ونقرة السلمان إلا بسبب السياسة، وبسببها كانت ثورة العشرين ووثبة كانون وحركة مايس وعشرات الانتفاضات والاحتجاجات، وطالما فكرت ان العراق يولد بجينات وراثية تواقة الى الانعتاق والحرية، وتمقت الظلم والاستعباد!
واذا كان من الصعب ان تتغير الجينات، فلابد من الاقرار ان شيئاً ما أصاب جينات العراقيين، وكأن طفرة وراثية قد حدثت، بحيث تقبلت أعداد كبيرة منهم، الاحتلال الأميركي بعد 2003، ومعلوم ان اميركا ليست دولة امبريالية فقط، بل هي زعيمة الامبريالية، وكنت في قرارة نفسي اتلمس العذر لكل عراقي صفق للأميركان او استقبلهم بالأحضان كردة فعل من معاناته القاسية من النظام السابق الذي امعن في ايذائه وظلمه، وكان عذري، او الاستنتاج الذي توصلت اليه سليماً، حيث لم يمض زمن طويل على الاحتلال، وقد تكشفت نوايا بقائه وسياساته المنحرفة، حتى رفض العراقيون بلا استثناء اميركا، وقاوموا وجودها بشتى الوسائل الشعبية والرسمية والعسكرية والسلمية والدبلوماسية، وتكللت يومها مساعي اليد واللسان والقلب بالنجاح...
من بين 38 مليون مواطن عراقي، على وفق احصائية السكان الافتراضية، لا اعرف الا رجلاً واحداً، وهو من ابناء جيلي وصديق قديم، ومناضل مشهود له بالوقفات الشجاعة، وشخصية على قدر عظيم من الثقافة والوعي والتجربة، هذا الصديق وحده كان يغرد خارج السرب، لانه يدافع عنهم وعن وجودهم ويتمنى لو انهم امضوا العمر كله في العراق، والادهى من ذلك انه لم يتحرج عن الاعلان بأعلى صوته، ان الاميركان اصدقاء وليسوا محتلين، وفائدتهم أكبر من ضررهم.
الحقيقة اثار موقفه الغريب حنقي وغضبي، ولم احتمل تماديه، ولهذا وجهت له بحضور عدد من اصدقائنا كلاماً موجعاً، وشتمت الاميركان الذين كانوا وراء الطائفية وخراب البلاد، وختمت كلامي متسائلاً "ماذا يعجبك فيهم وهم يأكلون اللحم ويرمون لنا العظام؟!"، وابدى الحضور ارتياحاً كبيراً لهجومي العنيف، حتى اذا فرغت من كلامي اجابني بهدوء "وماذا فعل جماعتنا، لقد أكلوا حتى العظام ولم يرموا لنا شيئاً!!"، اربكني رده المفاجئ، وكأي خاسر عمدت الى مزيد من الشتائم وافتعال الغضب، وقد ضحك الاصدقاء وقالوا "افحمك الرجل واقنعنا، لان هذا هو واقع الحال" ولكنني رفضت القبول برأيهم والاصغاء اليهم، مع إنني في اعماقي كنت مقتنعاً بأن حكاية العظام صحيحة مئة بالمئة!!