محمد جبير
بدأ حسن فالح مشواره الإبداعي في الكتابة حين نشر روايته الأولى «تكسي كروان» ليرسم له موقعاً بين العديد من الأسماء التي كتبت الرواية بعد 2003، لكنه حفر لنفسه أثراً في ذاكرة المتلقّي بعد أن أسند تجربته الأولى بتجربة ثانية «قارئ الطين»، وهي تجربة إيجابية في تعزيز جمالية السرد الروائي بصيغ قد تكون مطوّرة أو مغايرة أو مختلفة لتجارب سائدة في السرد العراقي، وتلتقي تضامنيا مع تجارب كُتّاب جدد من مجايليه يفكرون في المشروع السردي الجديد أمثال «شهيد شهيد، ضياء الخالدي، ضياء جبيلي، نبيل جميل، مرتضى كزار، مهدي علي ازبين، علي الحديثي، ناصر قوطي، علي السباعي، يوسف هداي، سالم حميد، علاء شاكر، باسم القطراني، وحيد غانم، بلقيس خالد، نادية الابرو، سالم بخشي، أحمد ابراهيم السعد، والراحل حسن جودة وآخرين، وذلك من خلال مشاكستهم للواقع السائد في كلّ ما يفكّرون به من مشروع روائي، إذ تقول سردياتهم ما لا يمكن أن يقوله الواقع أو
يبوح به.
ما يميز “حسن فالح” عن تجربة مجايليه من الكُتّاب الجدد ولا أقول الشباب، هو أنّه يستثمر مهاراته الجمالية في التشكيل السردي وذلك من خلال السينما، فقد أكّد ذلك في تجربته الثالثة “كاميرات وملائكة” والرابعة “شوبان الصدرية” فضلا عن مجموعته القصصية “حدائق الصمغ”، نشر تجربتيه الأولى والثانية في النصف الأول من العقد الحالي، أمّا الأعمال الأخرى فكان نصيبها النصف الثاني منه، ولا يختلف النصف الأول عن الثاني على صعيد الحدث الواقعي إلّا بالعنف وتصاعده في نصفي العقد، وتنامي روح الاحتجاج في النصف الثاني وتقدّمها على العنف السائد، سواء على صعيد الواقع المعاش أو تدفق الفعل الفكري الرافض للعنف والداعي للسلام.
ولم يكن الكاتب بعيدا عن هذا الحراك المجتمعي المتنامي منذ بدايته حتى يومنا هذا، إذ صار الكاتب وجها مألوفا في هذا الحراك، وصارت ساحات الاحتجاج بيته وخزان الأفكار والتجارب الإبداعية، ومنه يستلهم عزيمة الكتابة المفارقة للواقع أو التي تؤسطر الواقع بالقفز على العنف السائد فيه إلى جمالية حلمية تبني سعادات مفترضة.
الافتراض هو خيال، صناعة واقع سردي جمالي أمام خرائب واقع معاش، بناء صورة لوطن مفترض مقابل وطن تهرب فيه الأحلام والآمال جراء ارتفاع أصوات الانفجارات، بين الحلم والواقع تنفتح شاشة ذاكرة الكاتب على المشهد الإبداعي الذي يسعى إلى توثيقه للأجيال المقبلة، ليس توثيقا للفعل الواقعي العنيف، وإنما التوثيق هنا للفعل الجمالي السردي الذي يرسم صورة الأفق المفتوح للسعادات
المنتظرة.
ارتكز نصّه السردي “كاميرات وملائكة” على واقعة تفجير كنيسة سيدة النجاة في الكرادة، فيما ارتكز نصّه الثاني “شوبان الصدرية” على تفجيرات الصدرية المتكررة، وأبرزها تفجير الصهريج الذي راح ضحيته العشرات من الشهداء الذين لم يفكّروا لحظة أنهم على موعد مع الشهادة في هذا اليوم الدامي “يبدو أن الإيمان لا يحمينا من الموت، وحدها الأكياس الهوائية والطب من يحمينا، حتى بيوت الله التي احتمينا فيها كانت قد فجّرت ولم ننجُ من الموت” “كاميرات وملائكة– ص16”، وكذلك “منع أصحاب المحال وقوف السيارات أمام محالهم، تحسباً لأيّ طارئ يهدد حياة الناس داخل الحي، لكن ذلك لم يمنع دخول صهريج كبير مليء بمواد متفجّرة حول المكان إلى موقد متفحم”. “شوبان الصدرية – ص 14».
في الكاميرات يقوم الخيال السردي على استثمار حرفة الكتاب في مسرح خارج الواقع ليعود إلى لملمة الأجزاء المتشظية للإنسان من خلال الملائكة الذين يقومون بتصوير تلك الأجزاء وإعادتها إلى الجسد البشري،
وإذا كانت كاميرات السماء تعمل فإنّه هناك كاميرات لم تسجل الواقعة، مما تترك فراغاً سرديا في متن الحكاية قابلاً للتأويل، لذلك يترك الكاتب صفحات بلا أثر لكلام السارد، وإنما ترك المساحة واسعة لأفق المسرود له ليدوّن مايراه من الحكاية السردية في صورتيها الافتراضية
والتشخيصية.
أما شوبان الصدريّة فإنّها تجري بمجرى آخر، وهو مجرى احتجاجي رافض وصريح لما يحدث من عنف على أرض الواقع، إذ أصرّ “عاشور – شوبان الصدرية” على تحدي هذا الواقع بالموسيقى التي تخاطب أرواح الشهداء المحلّقة في الفضاءات العالية، هذا الإصرار هو الذي دفع به إلى إدخال البيانو إلى محلّته ويبدأ من هناك تجاربه في أن يضع مؤلفه لموسيقى وطنية “وقبل أن يطرق الباب الداخلي، فتحه يحيى وهو يلوك بين فكّيه لقمة كبيرة من الطعام، أخبره بأنّه أنهى تأليف الموسيقى الوطنية، وطلب منه أن يخبر والده بذلك، وأن يرافقه لسماع ما أنجزه، لكن يحيى لم يكن على طبيعته، أخبر عاشور بأن فكرة تغيير الموسيقى الوطنية تأجّلت”. “شوبان
الصدرية – ص156».
إلّا أنّ الخيال يبقى أقوى من الواقع، ويعزف شوبان الصدرية لحنه “لم يكن هناك من يسمع موسيقاه سوى رفيقه الحالم”.
“ص159”، رفيقه الحالم الذي وقف عند منتصف جسر الجمهورية باعثاً ببصره إلى المطعم التركي، منطلق شرارة التغيير
وتجسيد الأحلام.