عدي العبادي
هناك عناصر عدّة يجب أن تتجمّع في قصيدة النثر حتى تكون قصيدة جيدة مستقلة بكيانها، وتكون عملا إبداعيا نثريا مطروحا. ومن هذه العناصر الخيال والإبداع وهندسة القصيدة، والقضية التي يتحدث عنها المبدع، والإحساس الذي يتفرّد به عن سواه، وكلّ هذه العناصر إذا اجتمعت شكّلت لنا قصيدة حداثوية. تقول سوزان برنار إنَّ قصيدة النثر هي: "قطعة نثر موجزة بما فيه الكفاية، موحّدة، مضغوطة، كقطعة من بلّور، خلق حرّ ليس له من ضرورة غير رغبة المؤلف في البناء خارجاً عن كلّ تحديد، وشيء مضطرب إيحاءاته لا
نهائيّة".
هناك مدخلان من الخيال، هما الخيال المتعارف عليه مستهلكا كل أدواته، وخيال من بنات أفكار المبدع أي ما نسمّيه بالشطحات، أي يخترع لنا خيالا لا نعرفه كما يخترع لغة
خاصة.
وفي ما مضى كان الشاعر مقيّدا ليس بالوزن والقافية، بل حتى بالخيال فلا يمكن أن يقول شيئا منافيا للعقل، وكانت الإمكانيات محدودة، فالذي يعيش في الصحراء لايستطيع أن يعبّر عن الحضارة، لكونه لا يملك روح التمدّن، والانسان المدني لا يقدر أن يصف ما في الصحراء لعدم معرفته بكل جوانبها. ولكن في زمن التقدّم أصبح الشاعر يملك أكثر من خلال الاطلاع بسبب الثورة المعلوماتية، ونجد خصوبة وعمق الخيال في نص الشاعر منذر عبد الحر المعنون "في يوم الحب.... إليها" يقول فيه:
ونسائم طرّزت الفجر بالندى / قبل أن توقظ الشمس نعاس الورد / وقبل أن تفصح الموسيقى عن سحرها.
نجد سعة الخيال جعلت الشاعر يصور لنا أن الندى يطرز الفجر قبل أن توقظ الشمس كي يكون لدينا تصور جمالي عاشه الشاعر، وهي لوحة اتسمت بالشفافية، كلنا نشاهد الندى والفجر والشمس ونعرف كل هذه الأدوات لكن لا نستطيع أن نرسم مثل هذه الصورة الجميلة المبدعة ونحن لا نملك سعة الخيال مثل الشاعر ولا نملك شفافيته في التعبير.
نعم نحن مثله نشاهد كلّ هذا لكن نتوقف لمرحلة وهو ينطلق في عالمه التصوري ثمّ يترجمه لنا على لوحة فنية، ولو كنا نملك الخيال الذي يتمتع به منذر عبد الحر لاستطعنا أن نكتب مثله لكن المبدع يختلف عنا. يقول الجاحظ: كان في زمن المتنبي أربعة آلاف شاعر لم يشتهر منهم غيره مع بعض الشعراء، كما قلت إنّ هناك عناصر عدة في سبيل خلق قصيدة نثريّة
ناضجة.
الشاعر منذر عبد الحر في مقطع آخر
يقول:
على جبين الفضّة / وهمس الجمّار وفصاحة التفّاح ...
نشاهد النقاط التي وضعها الحر في القصيدة كي يخلق تساؤلات في ذهن المتلقي، أراد من وضعها أن يترك حيزا من التفكيرلدى المتلقي، إنّ عملية التنقيط أو هندسة القصيدة تكون جانبا إبداعيا مستقلا في ذاته، وربما تولد في يوم ما قصائد عبارة عن نقاط فقط، ونحن نعيش الآن زمن ما بعد الحداثة، اعتمد الاستاذ منذر في نصه على الشكل ولم يترك المعنى جانبا بل أغناه بكل شيء، يقول في مقطع
آخر:
في عليائها قمرٌ / تنامُ على خدّه دمعةٌ/ وتبزغُ من بوحه قصيدةٌ ذلكَ .../ وترُ الروح على انسيابه / يفتحُ الموجُ أغنيةً / تهطلُ على جيده وتقطفُ وردة
الشجن.
لعل التراكم الصوري في هذا المقطع الذي يظهر لنا من القراءة الأولى يجعل هذا المقطع بمثابة عمل مستقل وحده، ويخلق نوعا من الحيرة، فتارة يصف الشاعر لنا وصفا قريبا من الواقعية وهو يتحدث عن فتاة صغيرة وقمر في السماء، ولكن يقفز بالصورة حين يتحدث عن أغنية الموج وهذا التحول الرائع يشكل الجانب الإبداعي الذي نوّهتُ عنه، إذن اصبحت لدينا ثلاثة عناصر في قصيدة "في يوم الحب....إليها" الخيال وهندسة القصيدة والإبداع غير ان الركيزة كانت في الجانب الخيالي وقد أعطاها المبدع اكبر مساحة ممكنة، فهو
يقول:
الذهبُ المسفوحُ / على شاطئ الهمسات/ ينثرُ طفولته على نسمة الصباح/ المفتونة بشعر الفتاة الصغيرة
بعسلها.
إنّ من يطالع هذا المقطع بالخصوص ويحاول فكّ رموزه يجب ان يكون مطلعا على الحداثة ولا أقصد هنا ان المثقف جدا او الكاتب او الناقد هم الوحيدون الذين سيتعاملون مع النص، بل كلّ من يقرؤه يدرك حجم الجمال وسعة خيال المؤلف لأنه استخدم المفردات الدارجة في لغتنا، ولكن اقصد أن المثقف الحداثوي يملك القدرة على فهم النثر أكثر من غيره وهو يتمتع بسعة أفق، ومع هذا لا أنكر ضرورة وجود نوع من المباشرة التي اعتمدها الشاعر كي يسهّل الفهم لبعض محبي المباشرة، وهناك جانب مهم لم أتحدث عنه هو القضية أي قضية العمل ان اكثر قضايا الشعر تصب في خانة الغزل والاشتياق واللوعة، وكانت القصيدة القديمة ذات صورة واحدة وكلها سرد أي أشبه بالقصة ولكن مع الحداثة تغيّر كلّ شيء حتى أصبحت القصيدة تملك عدة صور بل تجاوزت كل شيء حتى أصبحت قصيدة النثر في كل مقطع صورة مستقلة في
ذاتها.