طرائف انتخابيَّة!

الصفحة الاخيرة 2020/02/21
...

حسن العاني 
 
-  1 - 
لعلّها بداية خمسينات القرن الماضي، وأنا تلميذ مدرسة ابتدائيّة، تلك هي المرة الاولى التي أسمع فيها عن شيء اسمه انتخابات، وأرى عن قرب طقوسها الشعبية وليس القانونية، كان ذلك على وجه التحديد في سوق الرحمانية، حيث واجهتني مسيرة جماهيرية لا أعرف كيف تجمّعت ومن أين انطلقت، وعلى ما يحضرني اليوم من ذلك المشهد، كان العدد لا يقل عن 300 شخص ولا يزيد على 400، غالبيتهم يرتدون الدشاديش او الزي البغدادي الشائع وقتذاك (الصاية والجراوية)، وكان هناك بضعة شباب في المقدمة يتعاونون على رفع لافتة بيضاء طولها قرابة 4 أمتار يمشي تحتها الصف الاول من المشاركين في المسيرة، وكان هذا الصف يمثل على ما اعتقد وجهاء المنطقة زيادة على المختار، ويمكن تلمس ذلك من فخفخة ملابسهم العربية حيث العقال والعباءة، ومن النعمة الظاهرة على وجوههم وابدانهم المتعافية، وأظن الى حدٍّ بعيد أن الاسم المكتوب على اللافتة بحرف كبير، ولون مختلف عن (بقية) الحروف والكلمات التي تدعو الى انتخابه، هو نفسه الشخص الذي يتوسط الوجهاء والشيوخ، والوحيد الذي يظهر بينهم وهو يرتدي زي الافندية، ولكن (بدلته) وربطة عنقه و(قندرته)، كانت من الجمال والاناقة بحيث لا تشبه ما يرتديه معلّمو مدرستنا الافندية، أو مدير مدرستنا (عزة الخوجه) رحمهم الله جميعاً أحياءً وامواتاً، فقد كان الفارق الطبقي في الملابس واضحاً الوضوح كله ولا يقتضي عقلاً ماركسياً لتشخيصه، بدليل أنّ طفلاً مثلي في الثامنة او التاسعة من العمر، استدلّ عليه، ولكن ذلك الزي الترف لم يكن وحده الذي أقنعه بأنّ الرجل الافندي الذي يتوسط الصف الاول من المسيرة هو (النائب) أو المرشح لعضوية البرلمان، بل طفولتي (يبدو أنني كنت طفلاً موهوباً وذكياً بخلاف شيخوختي) هي التي توصلت الى تلك الحقيقة، بعد ان لاحظت عدداً من المواطنين يتقدمون نحوه ويصافحونه دون غيره ثمّ يلتحقون بالتظاهرة الانتخابية!
لا أذكر مع الأسف ان كان المتظاهرون يرددون هتافات معينة أم لم يرددوا! ولكنني استذكر جيداً ان فرقة (صالح)، وهو أشهر طبّال في الرحمانية حضرت الى المكان متطوعة، او ان أحداً استدعاها، وقد استدرجت اليها عشرات الاعمار الطفولية والمراهقة وهي تطلق أنغامها الشعبية، وتحولت المسيرة الى زفة عرس والنائب العريس يوزع ابتساماته العريضة، وقد رقصت مع الراقصين، وأنا لا أعرف النائب ولا أدرك وظيفته.
ثمّ انتهت المسيرة عند نهاية السوق قريباً من مقهى كبير ذي سُلّم، وجلس الرجال وشربوا الشاي، فيما تولى أحد الاتباع توزيع بالونات صغيرة (نفاخات) علينا نحن الصغار، جعلتنا ننسى الانتخابات ووجه النائب، ولكن سوء الحظ شاء أن تكون نفاختي -هي الوحيدة– مثقوبة!!